محمد عمران كشادة
الحل في “الشبردق”، كلمات قالها أحد أنصار الفدرالية في مظاهرة للفدراليين في بنغازي، وهو يشير بيديه إلى “الشبردق” التي وضعت على الأرض وقد جلبت خصيصاً لمكان المظاهرة للتعبير عن موقف سياسي متطرف، ويصف المتظاهر “الشبردق” بأنها الحل لمشاكل برقة، كلمات تؤكد بأن الكيان الليبي الموحد قد أصبح في خطر، وأن النسيج الاجتماعي الليبي قد أصابه ما أصابه من الخلل والتشظي.
و”الشبردق” كما يعرفه المؤرخ الليبي سالم الكبتي هو: “الأسلاك الشائكة”، وقد ارتبطت في ذاكرة الليبيين بجرائم الاحتلال الإيطالي ومعسكرات الاعتقال التي أقامها الإيطاليون في العقيلة والمقرون والبريقة، ومناطق أخرى، فهل يعقل بأن تصبح “الشبردق” اليوم في أذهان بعض الليبيين ومواقفهم السياسية عنوانا للانفصال وتقسيم الوطن الواحد؟، وهي التي كانت بالأمس عنوان لصور ومشاهد التعذيب والتنكيل والتجويع والقتل التي تعرض لها الأجداد على يد الإيطاليين.
يؤكد واقع ليبيا ما بعد القذافي بأنه كلما اشتدت الخلافات بين النخب السياسية في شرق البلاد وغربها، يظهر علينا الفدراليون المتطرفون في برقة وهم يلوحون بالانفصال وحق تقرير المصير، وأنهم في سبيل ذلك لن يترددوا في اللجوء إلى الأمم المتحدة وطلب إجراء استفتاء لسكان برقة بحجة التهميش والإقصاء.
لا شك بأنها مواقف سياسية متطرفة جدا وخطيرة، وتجعل مستقبل الوطن على المحك.
أولئك الانفصاليون الحالمون بدولة في برقة، هل يدركون مقومات تلك الدولة وعوامل قوتها وضعفها؟
أم أن ذلك لا يعنيهم وليس من ضمن حساباتهم؟
إن تقسيم ليبيا ومولد دولة في برقة لن يكون إلا مقدمة لتفتيت الدولة الليبية وخروجها من مسرح التاريخ كقوة فاعلة ومؤثرة، ومن يعتقد بأن ليبيا قد تنقسم إلى ثلاث دويلات كما كان مخطط لها في مشروع بيفن سيفورزا عام 1949م فهو واهم، ولن يكون التقسيم إذا أصبح واقعاً حلاً للمشاكل العالقة بين الليبيين، بل سيكون بداية لمشاكل أكثر تعقيداً، وصراعات أكثر حدة، ولنا في تاريخ الأجداد والأباء المؤسسين للدولة الليبية دروس وعبر.
ففي عام 1963م تم إلغاء النظام الفدرالي واعتماد نظام المحافظات، قال مصطفى بن حليم رئيس وزراء ليبيا السابق في عهد المملكة في كتابه”ليبيا.. انبعاث أمة وسقوط دولة”، قال عن أسباب إلغاء النظام الفدرالي: “بأنه كان مكلف اقتصاديا ويهدد وحدة البلاد”.
التقسيم والانفصال إذا ما أصبح واقعاً سينتج عنه تداعيات خطيرة: صراع حول الحدود والموارد خاصة الحدود بين إقليمي برقة وطرابلس، هل ستكون وفق خارطة عام 1951م التي تحتوي على ثلاثة أقاليم أم في الوادي الأحمر كما يُطالب الفدراليون المتطرفون اليوم؟
وبلغة الأرقام ستكون مساحة برقة الدولة الوليدة: 855,370 كم2، وبتعداد سكاني لن يتجاوز 2 مليون نسمة في أحسن الأحوال، وهو البالغ نحو 1,613,749 مليون نسمة وفق إحصاء عام 2006م، وإذا ما أخذنا في الاعتبار ما فقدته كل من بنغازي ودرنة نتيجة مشروع الكرامة والحرب التي أشعلها حفتر منذ عام 2014م، فإنه يمكن القول بأن وضع برقة السكاني كارثي، وأنها فقدت ما لا يقل عن 300 ألف من سكانها وقوتها البشرية نزحوا إلى مدن غرب ليبيا ومنهم من نزح إلى خارج البلاد، ناهيك عن عشرات الآلاف من القتلى والجرحى والمبتورين والمفقودين ومن طرفي الصراع في بنغازي ودرنة.
فهل الدولة الوليدة ستكون قادرة على مواجهة أطماع دولة بحجم مصر تعداد سكانها يتجاوز 104 مليون نسمة، وتشكو من ندرة الموارد مع ارتفاع عدد السكان وحاجتهم للغذاء والموارد؟
مصر الدولة المنهكة اقتصادياً والتي بلغت ديونها أكثر من 157 مليار دولار، والتي تتعرض لتهديد وجودي لأمنها المائي والغذائي بسبب سد النهضة وتعنت أثيوبيا.
ولذلك يرى نظام عبد الفتاح السيسي بأن أحد الحلول لمشاكل مصر الاقتصادية هو التمدد غرباً ناحية ليبيا والحصول على نصيب الأسد من النفط والغاز الليبي والاستثمارات والمشروعات للشركات المصرية والعمالة المصرية.
لن تستطيع الدولة الوليدة في برقة مواجهة سياسات وأطماع مصر، ولن تكون قادرة على صد أمواج من العمالة المصرية القادمة بحثا عن لقمة العيش!، وهو ما سينتج عنه خلل في الوضع الديموغرافي والتركيبة السكانية لصالح مصر، بل ستدخل برقة في عصر مظلم وصراعات لها جذور وخلفيات تاريخية منذ عهد يوسف باشا القره مانلي والعهد العثماني الثاني مما يُهدد السلم الاجتماعي والتعايش بين مكوناتها القبلية.
يتحجج دعاة التقسيم من الفدراليين بالمركزية المقيتة وتركز غالبية الخدمات في طرابلس العاصمة، وهي حقيقة، وسياسة رسخها نظام القذافي ولا يتحمل مسؤوليتها أهل غرب ليبيا.
في دولة مثل ليبيا مساحتها شاسعة مترامية الأطراف نحن بحاجة إلى مركزية سياسية تحافظ على هيبة الدولة ووحدتها الترابية، أما فيما يتعلق بالخدمات والثروات فمن حق كل الليبيين أن توفر لهم الدولة الخدمات، وأن يكون هناك توزيع عادل للثروة، وأفضل نظام لذلك هو اتباع نظام المحافظات واللامركزية.
نحن إذ نرفض الفدرالية فإننا لا نشكك في تاريخ برقة النضالي ودورها في استقلال ليبيا، ولا ننتقص من وطنية أهل برقة، إنما نخشى على مستقبل وطن من تطرف العقليات الجهوية التي لا تؤمن بالقواسم المشتركة بين الليبيين، وتتنكر لحقائق التاريخ والجغرافيا.
***
محمد عمران كشادة ـ صحفي وباحث ليبي
___________
عين ليبيا