أحمد الفيتوري 

عصر الفساد عصرنا هذا، حتى أن الفاسدين يشجبون الفساد، فأين ما وليت وجهك، يغمر أذنيك حديث عن الفساد، حتى بات الجميع يتهم الجميع بالفساد، خاصة الفساد المالي، فالأخلاقي.

فـ «فاسد» مفردة تلوكها الأفواه، أكثر من أية مفردة أخرى، ومن ترادفاتها: سارق، متحرش، نهاب، غشاش، وما في حكم ذلك. ثم تردد قصص في الخصوص، يشيب رأس الرضيع منها!، أما عن الخرافة والأساطير، ما تروى حول الفساد، فمنها ما هو أفسد من الفساد ذاته، وكأن الفساد مصاب «كوفيد 19»، لكن ما علاج له ولا فكاك منه. أو هكذا ما توحي به الحملة ضد الفساد، التي تتمظهر أحياناً كما حملة فاسدة، من كثرة ما تردد في كل صائبة وخائبة.

ولكن ما لاحظته، أن التركيز منصب على الفاسدين مالياً، وثاني ذلك، ما يخص خسة الرجل في التعامل مع المرأة، فاللص بطل الفيلم وسنيده المتحرش. ومن هذا كأن ما في غير ذلك، لا يعد من الفساد، وإن كان من أبناء عمومته. فسرقات المتنبي ليست سرقات، وأما الاستحواذ على نظرية علمية أو اختراع فكأنه مباح، ومنه التزوير وغش الامتحانات، ما لا يشغل المجتمعات البشرية، رغم أنها تغص بهما.

ذات مرة، بالتحديد في تسعينيات القرن العشرين، أصدرت مجلة «لا» الليبية عدداً، يحتوي ملفاً ضخماً عن سرقات أحد الكتاب، لم يخشَ الكاتب ولم يخجل من ذلك، فقد سرق أيضاً مقالة، حين صدور العدد/الكشاف لسرقاته الكثيرة جداً. كما أن الغالبية العظمى لم تهتم، ولسان حالها «سارق الفكر والإبداع، ليس كما سارق المال».

مما يذكرنا، بما دار في التراث الثقافي العربي، حول سرقات المتنبي، ما صدر في أمرها من كتب، حيث يتبين أن مسألة السرقات الأدبية والعلمية، وإن تنال الاهتمام فإنها أمرهين في مجمل ذاك التراث. وبدا لي أن سرقة مثل هذه، لا تسخن درجة حرارة الغيرة، ولا تؤجج الحسد، فالمال زينة حياة الدنيا وليس العلم والشعر!.

وفي أيامنا هذه ليس ثمة أية جهة، ترصد السرقات غير المالية، كما تنطع كتاب ونقاد لسرقات المتنبي، وما حصل من دفوع عنه.

في أيامنا هذه، تحفل الصفحات الإخبارية، بأخبار لصوص البحوث العلمية والدراسات، والشعر والنثر، خاصة في أروقة الجامعات والكليات المختصة، لكن الأخبار تبدو كما أخبار، نجوم الرياضة ونجمات الفن، أخبار مرسلة لتسلية المتلقي، ليس أكثر ولا أقل، وسألعب مع الميديا مثل هذه اللعبة، وفي مقالي هذا:

ذات مرة، شاهدت منصور الرحباني الموسيقار والشاعر الشهير، يتحدث في برنامج حواري بمحطة تلفزة، لم أعد أذكرها، فحدث وقال: أول تجربتنا الإبداعية عاصى أخي، وفيروز وأنا، وقد ووجهنا بشجب وإهمال مقصود، فكُتبت مقالات ضدنا، منها ما يصمنا بالسرقة. حتى أني تجرأت وسرقت أسماء شهيرة، لقصائدي النثرية، مثل بودلير ورامبو وحتى هيغو، مدعياً أن القصائد لهولاء، وأني المترجم، فتم نشرها، لكن لما كنت أرسلها، باعتبارها من تأليفي، لم تنشر.

هكذا منصور الرحباني، كان ينتحل لقصائده أسماء، ولا ينتحل قصائد غيره، ما ذكرني بالشعر الجاهلي، كتاب طه حسين الأشهر، ما كتبت ضده الكتب، وصدرت ضده الاتهامات، حتى وصل النيابة فوقف معه النائب العام. بيد أنه اضطر رغم ذلك، لتحوير الكتاب، ما كان يعتبر الكثير من الشعر الجاهلي منتحلاً، أي وضعه محدثون ونسبوه للقدامى. وقد يكون هذا في باب «اللص الظريف»، أو كما وصم أرسين لوبين.

هذا النوع من السطو المباح؟، مباح مثله التزوير، فمن البحوث الجامعية ما تحمل اسماً باعتباره منتجها، وهو لم ينتج من البحث نتفة، فقد كلف لإنجازه باحثا فقيرا مجدا، مقابل المال طبعاً، ثم وضع اسمه، وتقدم به لنيل درجة علمية ووظيفة. أما ما فعله أمام الممتحنين، فتمثيل يستحق عليه جائزة من أكاديمية الفنون. ومن مثل هذا أن يكتب شاعر قصائد، يتم إصدارها في ديوان، ما يحمل اسم حبيبته أو زوجته، مثلما حدث مع هيلينا كزانتزاكس.

نشرت هيلينا كزانتزاكس مذكراتها، ما طالعتُ بشغف، فالكتابة شفافة والسرد سلس، وقد دست في سطورها اعترافاً، فرجاء بالمسامحة والعفو عن خطأ، خطأ ارتكبتهُ في زمن ولى. على ما أذكر كتبت:

إنها وزوجها كزانتزاكس، الكاتب اليوناني العظيم، كانا في فاقة بعد أن ألمت بهما الأيام. فوجد زوجها إعلاناً في الصحف، عن مسابقة لتأليف كتاب، لسنة الشهادة الثانوية باليونان، حول غاندي فكراً وشخصاً، وثمة مبلغ مالي مجزٍ للفائز.

وفي أيام، كان الكاتب العظيم، قد أتم تأليف الكتاب، ما حاز على الجائزة لمؤلفته هيلينا كزانتزاكس، كما قدم الكتاب إلى الجائزة. وتضيف أن الكتاب، درسه أجيال من طلبة اليونان، ومن أحب الاطلاع عليه، وإني أنا هيلينا كزانتزاكس، أُقر وأعترف بأني لست بمؤلفة الكتاب. وكما نسب لي، نتيجة فاقة، فإن إقراري هذا، وإن جاء متأخراً، فدافع ذلك أن زوجي قد توفي، ومن حقي وحقكم عليّ هذا الإقرار.

وفي أيامنا هذا تقر حكومات، أن للفاسدين السراق ملكية ما سرقوا، شرط أن يستثمروا المال العام ما سرقوا للصالح العام.

فهل أن عصر الفساد هذا، يعتبر الفاسدين: أرسين لوبين/ اللص الظريف؟.

________________

مقالات مشابهة

6 CommentsLeave a comment

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *