إن الأزمة الليبية التي اندلعت منذ عام 2011 ولا تزال مستمرة حتي الآن ، تعد من أكثر الأزمات التي يشهدها الوطن العربي تعقيداً وحدة ، حيث أن الأزمة قد نجم عنها تقسيم البلاد سياسياً وعسكرياً وإدارياً وجرافياً في عام 2014 ، محدثة صراع مسلح داخلي حاد استمر لأكثر من ثماني سنوات.
وهذا الصراع لم يتقصر علي الأطراف المحلية فقط ، ولكن تعدد الفاعلين الذين يلعبون دور مهم في الصراع الليبي علي المستويين الإقليمي والدولي ، ومن ثم فإن في هذا الوضع الذي يتسم أساساً بالتعقيد والتضارب وتداخل المصالح والأطراف يُمكن أن يكون لجائحة فيروس كورونا المستجد تأثيرها عليه ، أو حتي التأثير علي الأطراف الفاعلة في هذه الأزمة مما يُمكن أن ينعكس علي دورهم وتدخلهم في الأزمة الليبية.
وقد يكون هذا التأثير بشكل مباشر ، سلبي أو إيجابي ، أو حتي يمكن أن يكون التأثير غير مباشر من خلال إضافة بُعد جديد للديناميات الموجودة مسبقاً.
أولا: تأثير الجائحة علي استراتيجيات الأطراف الفاعلة في الصراع
لقد شهد الصراع الليبي منذ نشأته تدخل عدد كبير من الفاعلين الإقليميين والدولييين علي طول فترة الصراع ، ومن ثم يمكن القول أن هناك ما يصل إلي تسعة دول كان لها دور واضح في رسم مسار الصراع الليبي علي مدي فترة اندلاعه حتي الآن>
تنقسم هذه الدول إلي تحالفات تدعم الطرف المحلي الذي يخدم أهدافها ، ويُحقق ما لديها من استراتيجيات ، وكل دولة من هذه الدول وخاصة الدول الرئيسية في الصراع تعتبر أهدافها في ليبيا أهداف استراتيجية ومحورية يَصعُب التخلي عنها ، وهذه الدول تتمثل في كل من مصر والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية ، والإتحاد الأوروبي وبشكل خاص كل من فرنسا وإيطاليا وألمانيا ، وروسيا ، وتركيا وقطر.
وقد جاءت جائحة فيروس كورونا المستجد لتمثل أزمة على العالم أجمع ، بما فيه هذه الدول الفاعلة في الأزمة الليبية ، كما أن بعضها قد تأثر بشكل كبير من الجائحة ، ومن ثم يُمكن أن تكون هذه الفترة التي انتشرت فيها جائحة فيروس كورونا المستجد مؤثرة بشكل أو بآخر علي هذه الدول ، وما تقوم به من دور في الأزمة الليبية ، وما لها من أهداف ومصالح واستراتيجيات في الداخل الليبي.
ومن ثم سوف نحاول تناول الدول الأكثر أهمية في الصراع الليبي ، وذلك للتعرف علي مدي تأثر استراتيجية كل منهم في الصراع الليبي خلال فترة الجائحة ، ومن ثم ما قامت به من دور في الأزمة والصراع الليبي في هذه الفترة الخاصة بالجائحة.
مصر
تعد الأزمة الليبية بالنسبة لمصر مصدر تحدي وتهديد للأمن الداخلي ، ولذلك تولي مصر أهمية كبيرة لهذه الأزمة ، ويظهر ذلك في دعم مصر الواضح لأحد أطراف الصراع المحلي ألا وهو الجنرال خليفة حفتر ، حيث تقوم مصر بتقديم الدعم العسكري والسياسي والدبلوماسي لحفتر بشكل كبير ، بالإضافة إلي إنه يوجد بعض الضباط الكبار من الجيش المصري متواجدين في ليبيا ، ويعملون علي مد قوات حفتر بالدعم اللوجيستي والمعلومات الاستخباراتية التي يحتاجها كما أوضحت بعض التقارير ، هذا إلي جانب قيام مصر بتأييد العملية التي أعلنها حفتر ضد طرابلس علي إنها معركة ضد التطرف الإسلامي.
كما إن هناك دور كبير لمصر في دعم قوات حفتر علي المستوي الدولي ، ويظهر ذلك في عمل مصر للحفاظ علي سمعة حفتر والأنشطة التي يقوم بها علي المستوي الدولي ، إلي جانب عمل مصر علي تقديم حفتر إلي القوي الدولية للتعاون معه ، أو علي الأقل عدم إدانته والتغاضي عما يقوم به من جرائم في ليبيا ، وعلي وجه الخصوص التركيز علي كل من الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا ، وقد أتت تلك الجهود بنتائج واضحة مع روسيا التي سمحت لشركات المرتزقة بالتعاون معه ، وكذلك الولايات المتحدة الأمريكية التي اعترفت في بيان في أبريل 2019 بدور حفتر الكبير في مكافحة الإرهاب ، وكذلك في حماية موارد ليبيا النفطية.
ومع بداية ظهور جائحة فيروس كورونا المستجد وانتشاره في مختلف أنحاء العالم ، نجد أن الأزمة الليبية شهدت تطورات متسارعة في خلال هذه الفترة ، وهذه التطورات نجمت عن التصعيد المتبادل بين أطراف الصراع ومن ضمنها مصر ، والتي لوحت بالتدخل المباشر لمساندة قوات حفتر ، وذلك للدفاع عن أمنها القومي في الاتجاه الاستراتيجي الغربي ، كما قامت مصر كذلك بإصدار إعلان القاهرة في يونيو 2020 كمحاولة للتوسط في حل الأزمة الليبية ، والذي تم من خلاله التأكيد علي مخرجات مؤتمر برلين 2020 ، وعلي الرغم من ذلك لم ينجم هذا الإعلان عن حل للأزمة بعدما رفضته حكومة الوفاق الوطني بدعم حلفؤها.
الإمارات العربية المتحدة
إن الإمارات تهتم بالأزمة الليبية بشكل خاص لما لها من أهداف ومصالح استراتيجية بها ، تتمثل أهمها في التخلص من الإسلام السياسي الذي يعد العدو الرئيسي لها في المنطقة ، وفي سبيل ذلك تعتبر الإمارات حفتر حليف استراتيجي وسياسي لها في مواجهة عدوها الرئيسي ، كما إن ذلك ليس الهدف والدافع الوحيد لدعم الإمارات لحفتر ، حيث أن ليبيا هي أحد الدول الغنية بالنفط في شمال إفريقيا ، ومن ثم تهدُف الإمارات لمنع تشكيل حكومة مستقرة ومستقلة فيها ، وفي سبيل تحقيق أهدافها تقوم بتقديم الدعم العسكري ، واللوجستي ، والسياسي ، والدبلوماسي ، والمالي لقوات حفتر.
وفي خلال فترة الجائحة استمرت الإمارات علي استراتيجيتها في دعم قوات حفتر ، وقد ظهر ذلك علي سبيل المثال في قيامها بإرسال ثلاث طائرات شحن عسكرية في شهر مارس 2020 إلي أحدي القواعد الخاضعة لسيطرة قوات حفتر في مدينة المرج ، وغيرها من التحركات التي ساهمت في تصعيد حدة الصراع.
المملكة العربية السعودية
يمكن القول أن الموقف السعودي كان في البداية موقف هادئ نسبياً ، ويدعو إلي إقامة حوار وطني حقيقي في محاولة للوصول إلي سلام شامل بين الفرقاء الليبيين، ومن ثم تحول هذا الموقف في أعقاب زيارة حفتر للرياض إلي داعم أكثر نشاطاً له ، وكان ذلك يسبق الهجوم الذي شنه حفتر ضد طرابلس بأسبوع ، وكان ذلك في ضوء استراتيجيتها التي تحاول المواءمة مع حلفؤها مصر والإمارات لتشكيل نظام إقليمي جديد ، بالإضافة إلي كون ليبيا تمتلك إمكانات كبيرة في قطاع الغاز ، التفتت له السعودية في إطار استراتيجيتها للتنويع الاقتصادي وبشكل خاص في هذا القطاع.
وقد ركزت المملكة العربية السعودية في دعمها لقوات حفتر علي تقديم الدعم المالي بالأساس ، هذا بالإضافة إلي بالتركيز بشكل كبير علي آلية الدعاية ، والعمل علي التعبئة الإعلامية لما تقوم به قوات حفتر من أنشطة ، من خلال شبكة من المدونات ، والدخول التدريجي لمواقع التواصل الاجتماعي الفرنسية والإنجليزية ، وكذلك السيطرة علي المشهد الإعلامي في ليبيا ، وبالفعل قد نجحت في ذلك ، حيث أن النسبة الأكبر من المحتوي الإعلامي الخاص بليبيا في الفترة الأخيرة تأتي من المملكة العربية السعودية ، متخطية بذلك ليبيا نفسها.
وفي خلال فترة الجائحة كانت المملكة العربية السعودية ثابتة علي هذا الموقف المؤيد لقوات خليفة حفتر ، ولم تعمل علي التغيير من استراتيجيتها نظراً لما لها من أهداف استراتيجة في الداخل الليبي ، ولكن في ذات الوقت لم يكن هناك تصعيد أو حتي تراجع واضح من الجانب السعودي خلال فترة الجائحة.
قطر
إن قطر تسعي من خلال تواجدها في الصراع الليبي أن تعمل علي الوقوف بين خصومها الإقليميين وبين السيطرة في ليبيا ، أو الحصول علي سلطة سواء في ليبيا أو في المنطقة بشكل عام ، ومن ثم تقف قطر في الطرف المقابل بجانب تركيا التي تمثل حليف لها في هذا الصراع ، ويرتكز الدعم القطري في الأساس علي الدعم المالي لحكومة الوفاق الوطني ، والتي تعد الخصم الأساسي لقوات خليفة حفتر.
وتؤكد قطر علي دعمها لحكومة الوفاق الوطني مبررة ذلك بكونها الحكومة الشرعية المعترف بها ، كما تدعو إلي ضرورة الإلتزام بتنفيذ كل من قرارات مجلس الأمن واتفاق الصخيرات ، وكذلك ما تمخض عنه مؤتمر برلين من نتائج ، وفي سبيل ذلك قامت بالإعلان عن استعدادها لتقديم الدعم العسكري واللوجستي التي تحتاجه حكومة الوفاق ، وهذا الدور القطري والموقف المعلن قد زادت أهميته في الفترة الأخيرة مع تفشي الجائحة ، وما تلاها من أزمة اقتصادية كبيرة في تركيا ، بالإضافة إلي كون المليشيات التي تقاتل في جانب حكومة الوفاق تتسم بالتصدع ، مما يعكس دور أكبر لدولة قطر في الداخل الليبي أثناء الجائحة.
تركيا
إن تركيا تعد من أكثر الدول أهمية في الصراع الليبي ، حيث أنها تعد أحد الفاعلين المهمين الذين يتحكمون في رسم مسار هذا الصراع منذ تورطها فيه ، وذك نظراً لما لها من أهداف ومصالح استراتيجية من وجهة نظرها في الداخل الليبي ، ومن هذه المصالح هو عدم إعطاء الفرصة لمنافسيها الإقليميين كمصر والمملكة العربية السعودية أو غيرها بالتقدم في ليبيا علي حسابها ، هذا إلي جانب ما لها من مصالح اقتصادية كبيرة في ليبيا ، حيث أن تركيا لديها في ليبيا ما يصل إلي 15 مليار دولار من الالتزامات التعاقدية غير المدفوعة.
ومن ثم بدأ يظهر الدعم التركي في الآونة الأخيرة بوضوح لحكومة الوفاق الوطني ، وقد إزداد هذا الاهتمام التركي بالوضع في ليبيا مع تدهوره وزيادة عدم الاستقرار في البلاد ، كما بدأت تركيا مؤخراً في إرسال مرتزقة سوريين من المليشيات السورية الموالية لتركيا للقتال بجانب حكومة الوفاق الوطني ، ومع تفشي الجائحة والتصعيد من بعض الأطراف الفاعلة في الصراع ، كان هناك تصعيد كذلك من الطرف التركي ، بل تعد تركيا أحد الأطراف الرئيسية التي ساهمت في التطورات والتصعيدات في هذه الفترة.
وقد وصل هذا التصعيد إلي التدخل العسكري المباشر لدعم الأطراف المتصارعة في الداخل الليبي ، حيث قامت تركيا بالتدخل وإرسال قوات برية لدعم حكومة الوفاق الوطني ، في مواجهة قوات خليفة حفتر ، حيث أن تركيا قامت بتقديم الدعم العسكري واللوجيستي لحكومة الوفاق الوطني ، ويظهر ذلك في إرسالها لمجموعة من الطائرات المسيرة من الطراز “بيرقدار” ، وقد ساهم هذا التدخل التركي والدعم الذي قامت بتقديمه لحليفتها حكومة الوفاق الوطني في قلب موازين القوة ، بالإضافة إلي مساهمتها في إنقاذ مصيرها بعد وصول قوات حفتر إلي ضواحي العاصمة طرابس ، هذا وقد جاء ذلك كله في إطار ما تم توقيعه مع حكومة الوفاق الوطني من اتفاقية عسكرية وبحرية.
ومن ثم نجد أن تركيا تعد فاعل رئيسي في كل من الصراع السوري والليبي ، وتتميز طبيعة تدخلها في كلا الصراعين بكونه تدخل عسكري مباشر ، ولكن هذا التدخل التركي في سوريا يتميز بكثافة أكبر من نظيره في ليبيا ، كما أن تركيا قامت بالاستعانة بمرتزقة سوريين من المليشيات السورية الموالية لها للقتال بجانب حكومة الوفاق الوطني في ليبيا ، وفي خلال فترة الجائحة كان سلوك تركيا علي الأرض في كل من ليبيا وسوريا مختلف ، علي الرغم من أن استراتيجية تركيا في كلا الصراعين لم تتغير بشكل عام ، حيث كانت تركيا في الحالة الليبية من أكثر الأطراف التي ساهمت في التصعيد العسكري للصراع ، وكان لها دور كبير فيما وقع من تطورات متسارعة ، بينما نجد إنه في الحالة السورية لجئت تركيا للقيام ببعض التعديلات الطفيفة في سلوكها ، وعلي وجه التحديد نجد هذه التعديلات في محاولات تركيا للتفاوض مع كل من روسيا والولايات المتحدة فيما يخص أدلب والشمال الشرقي ، مما ساهم في جعل الوضع في ليبيا يتجه نحو التصعيد ، في الوقت الذي لم يتأثر فيه الوضع في سوريا بشكل كبير.
روسيا
تعد روسيا أحد الفاعلين الرئيسين في الصراع الليبي ، ولها دور كبير في رسم مسار الصراع منذ تدخلها فيه ، وقد تدخلت روسيا في هذا الصراع نظراً لما لها من مصالح حيوية بها ، تتمثل في دعمها لقوات خليفة حفتر بإعتبارها حليف رئيسي ومحوري لها في الشمال الإفريقي والشرق الأوسط ، كما إنها تعمل علي استخدام نفوذه في الشمال الإفريقي كورقة تفاوضية مع كل من الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية.
وفي سبيل دعم حليفها في ليبيا اللواء خليفة حفتر قامت روسيا بإرسال مقاتلين روسيين إلي ليبيا للقتال في صفه ، وهؤلاء المقاتلين الروسيين هم مرتزقة تابعين لمؤسسات وشركات الأمن الخاصة ومن أهمها شركة “فاغنر” الروسية للأمن ، وقد وصل عدد المقاتلين الروس في ليبيا إلي 2500 مقاتل ، وخلال فترة تفشي الجائحة كانت روسيا من الدول التي ساهمت في تصعيد الصراع وما لحقه من تطورات سريعة ، حيث قامت بالتدخل العسكري بشكل غير مباشر من خلال إرسال مقاتلين جدد إلي ليبيا ، وكذلك قامت بالاستعانة بمرتزقة سوريين كما تفعل تركيا للقتال في ليبيا في صفوف قوات خليفة حفتر.
ومن ثم نجد أن روسيا تعد فاعل رئيسي في كل من الصراع السوري والليبي ، ولكن التواجد الروسي في سوريا يتميز بكثافة أكبر من نظيره في ليبيا ، هذا إلي جانب الاختلاف في طبيعة هذا التدخل من تدخل عسكري مباشر في سوريا ، وغير مباشر في ليبيا عن طريق الاعتماد علي قوات فاغنر الروسية وغيرها ، وكذلك الاستعانة بالمرتزقة السوريين للقتال في ليبيا ، وفي خلال فترة الجائحة كان سلوك روسيا علي الأرض في كل من ليبيا وسوريا مختلف ، علي الرغم من أن استراتيجية روسيا في كلا الصراعين لم تتغير بشكل عام ، حيث كانت روسيا في الحالة الليبية من الأطراف التي ساهمت في تصعيد الصراع وما وقع من تطورات متسارعة ، بينما نجد إنه في الحالة السورية لجئت روسيا إلي البحث عن مصادر جديدة للدخل ، وكذلك تخفيض تكاليف الصراع ، مما ساهم في جعل الوضع في ليبيا يتجه نحو التصعيد ، في الوقت الذي لم يتأثر فيه الوضع في سوريا بشكل كبير.
الموقف الأوروبي
الموقف الأوروبي في الصراع الليبي يتسم بكونه غير موحد ، حيث هناك مواقف مختلفة تصل إلي حد التضارب النسبي وخاصة فيما يخص كل من فرنسا وإيطاليا وألمانيا ، وهؤلاء الثلاثة يمكن إعتبارهم الفواعل الأوروبية الظاهرة بشكل واضح في الصراع الليبي ، حيث نجد إنه في الفترة الأخيرة سعت ألمانيا إلي محاولة التوصل إلي أرضية مناسبة للحل في الملف الليبي ، في الوقت الذي سعت فيه فرنسا إلي فرض حلولها الخاصة دون النظر لأي توافق مع الدول الأوروبية ، بينما كانت إيطاليا تتسم بموقف غامض ومتردد وغير محدد.
وفيما يخص فرنسا يتضح أن تدخلها في الصراع الليبي نابع من مصالح حيوية بالنسبة لها في المنطقة ، تتمثل هذه المصالح في منافسة الشركات الدولية الكبري بشكل عام والإيطالية بشكل خاص في الحصول علي النصيب الأكبر من النفط والغاز الليبي ، بالإضافة إلي أن ليبيا تمثل بالنسبة لدول الساحل والصحراء “تشاد والنيجر” أحدي البوابات الرئيسية ، ومن ثم يصبح الحفاظ علي تواجد عسكري فرنسي دائم في ليبيا أحد المصالح الحيوية الفرنسية.
ومن ثم في سبيل تحقيق أهدافها سعت إلي تقديم دعمها السياسي والعسكري لقوات خليفة حفتر ، علي الرغم مما تدعيه من حياد ودعم للشرعية في الداخل الليبي ، وفي خلال الفترة الأخيرة ومع تفشي الجائحة لم يظهر تأثير واضح علي إيطاليا التي ظل موقفها كما هو يتسم بالتردد ، في الوقت الذي سعت فيه ألمانيا للتوصل إلي حل لإنهاء الصراع الليبي ، وكانت فرنسا ثابتة علي موقفها بل ومع التصعيد التركي الأخير بدأ يتخذ التدخل الفرنسي أبعاداً جديدة.
ومن ثم يمكننا القول في النهاية أن جائحة فيروس كورونا المستجد لم تجعل أي من الفاعلين يغير استراتيجياته في الصراع الليبي ، حيث أن كافة الاطراف أحتفظت بما لها من أهداف واستراتيجيات في الداخل الليبي ، ولكن ما يمكن أن تكون قامت به الأزمة هو تغيير في سلوكيات بعض الأطراف في هذا الصراع ، ما بين التصعيد من قبل بعض الأطراف بشكل خاص مصر وتركيا ، ومحاولات البعض الآخر العمل علي حل هذا الصراع في ظل الأزمة كما في حالة ألمانيا.
كما أن الجائحة هنا يمكن أعتبارها تمثل فرصة وتحدي في ذات الوقت ، سواء بالنسبة للفاعلين المحليين أو الفاعلين الإقليميين والدوليين ، حيث أن الجائحة من الممكن أن تساهم في ترجيح كفة طرف ما علي حساب الطرف الآخر ، كما أن الجائحة تمثل فرصة يمكن أن يقوم أحد أطراف الصراع بمحاولة استغلالها ومفاجأة الطرف الآخر ، ومن ثم فإن الجائحة جعلت من خيارات التهدئة والتي من المفترض أن تعلو في ظل هذه الظروف الاستثنائية ، ولكن ما حدث هو أنه مع كل هذه الظروف والتطورات السريعة للأحداث ، وكذلك كل هذه الإحتمالات يمكن أن تجعل فرص تصعيد الصراع عالية.
ثانيا: تداعيات الجائحة علي الصراع المسلح في ليبيا
تزامن بداية ظهور أول حالات الإصابة بجائحة فيروس كورنا المستجد في ليبيا مع زيادة في التصعيد العسكري بين طرفي الصراع ، حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دولياً في الغرب ، وقوات خليفة حفتر في الشرق ، وذلك علي الرغم من الدعوات المتكررة لوقف إطلاق النار ، والتي كان من أهمها دعوة الأمين العام للأمم المتحدة في شهر مارس 2020 لوقف إطلاق نار شامل في مناطق الصراعات ، والعمل علي تكثيف الجهود لمواجهة الجائحة والتعاون معاً بدلاً من الصراع.
حيث أن كلا الطرفين المباشرين في الصراع قد راهن علي حسم الحرب عسكرياً ، والذي بات احتمال أقرب في وجهة نظرهم مع تفشي الجائحة ، ولذلك شهدت الأوضاع في ليبيا تصعيداً في الصراع المسلح القائم بين الأطراف المختلفة بغض النظر عن الجائحة وما تفرضه من التزامات إنسانية ، كما أن طرفي الصراع كذلك سعيا إلي محاولة استغلال الأزمة بما يعود بالنفع عليه ، حيث تم توظيف المساعدات الطبية كأداة لمكافئة الأطراف والمجتمعات التابعة لهم ، ومن ثم تحولت المساعدات إلي مورد آخر يحفز علي إثارة الصراع.
بالإضافة إلي محاولة استغلال هذه الأزمة لفرض وتعزيز النفوذ السياسي والاجتماعي ، مبررين ذلك بمحاولة تطبيق إجراءات الصحة والنظافة العامة في ظل هذه الأزمة الصحية ، ليس ذلك وحسب بل تم استغلال الجائحة لفرض مزيد من عسكرة الحكم في المناطق الخاضعة لهم ، ويظهر ذلك في سلوك اللواء حفتر وقواته ، ومن ثم فإن الجائحة ساهمت في تصعيد الصراع وتطور الأحداث بشكل سريع ومعقد.
كما يمكننا القول أن الجائحة قد سامت في تصعيد هذا الصراع من خلال نقطتين أساسيتين ، ألا وهما : إنه مع وجود ضغط كبير نتيجة للهجمات العسكرية المستمرة مع تفشي الجائحة ، أصبح هناك اعتقاد سائد لدي كل طرف من الطرفين بأن الطرف الآخر قد قارب علي الإنهيار ، هذا بالإضافة إلي إنه تم تجاهل كافة الاتفاقيات التي تم التوصل إليها في مؤتمر برلين 2020 من قبل طرفي الصراع ، ومع ذلك فقد ساهمت الجائحة في صرف نظر العالم وانتباهه عن هذا الإختراق للمؤتمر وما نتج عنه من اتفاقيات.
هذا بالإضافة إلي أن الدول التي تعاني أساساً من صراعات وعدم استقرار يمكن أن يكون تأثير الأمراض عليها أكبر بكثير ، لما يخلقه من ضغوط علي أنظمتها السياسية والتي تعاني من هشاشة مُسبقة ، إلي جانب التأثير الاقتصادي السلبي المتزايد ، مما يمكن أن يتسبب في ظهور واندلاع أعمال عنف جديدة ، وهذا ما حدث فعلاً في الحالة الليبية ، حيث بدأت المدن الليبية تشهد تنامي لموجات سخط شعبي ، وذلك نظراً لزيادة الأوضاع المتردية من الأساس سوءاً ، وتدهور الوضع الاقتصادي في البلاد والذي بدأ يتجه نحو الإفلاس.
ويظهر ذلك التصعيد في الصراع من قبل طرفي الصراع في العديد من الأحداث ، ومنها علي سبيل المثال لا الحصر : قيام قوات خليفة حفتر بمحاصرة محطات النفط في يناير 2020 ، كما تم تسجيل 11 حادث مرتبط بالصراع في شهر أبريل فقط يمس القطاع الطبي والعاملين فيه والمستشفيات الميدانية ، بالإضافة إلي وقوع هجومين في عام 2020 علي مشروع النهر الصناعي ، والذي يعمل علي توفير ما يصل إلي 60 في المائة مما يوجد من مياة عذبة في البلاد.
ومن الجدير بالذكر أنه مع مؤتمر برلين الذي تم عقده في يناير 2020 كانت هناك استجابة مبدئية من طرفي الصراع للتهدئة ، وذلك في سبيل الجهود المبذولة والدعوات الأممية لإقرار هدنة مؤقتة وتهدئة الأوضاع ، وحتي يتم توجيه هذه الجهود لمكافحة تفشي الجائحة ، ولكن سرعان ما تم الانتهاك لهذه الهدنة في البداية من طرف قوات خليفة حفتر ، والذي تلاها تجاهل تام لطرفي النزاع لما نتج من اتفاقيات في مؤتمر برلين ، وكذلك تجاهل لكافة النداءات والدعوات بوقف إطلاق النار ، ويمكننا الجزم أن ذلك الإنتهاك تزامن مع ظور أول حالات الإصابة بالجائحة في ليبيا في شهر مارس.
ويمكننا القول إنه في خلال فترة الجائحة ومع تزايد الدعم التركي لحكومة الوفاق الوطني ، أصبح الميزان يميل إلي صالح حكومة الوفاق ، والتي تمكنت من السيطرة علي كافة معاقل حفتر في الغرب ، ونظراً لما كانت تمثله هذه المناطق من عمق استراتيجي بالنسبة لقوات حفتر ، فتعد هذه الضربة ضربة قوية لقوات حفتر وكذلك داعميه وحلفاؤه ، كما ساهم ذلك في إنقلاب المعادلة بطريقة غير متوفعة لصالح حكومة الوفاق الوطني ، ويعود الفضل في ذلك إلي الدعم التركي المتنامي ، والذي لم يقتصر فقط علي الدعم اللوجيستي وإنما تطور إلي دعم عسكري مباشر.
ومن ثم يمكننا القول في النهاية أنه علي عكس معظم الصراعات في العالم ، وعلي عكس المفترض من تهدئة الأوضاع في فترات الأزمات والجوائح ، نجد أن الصراع في ليبيا هو من الصراعات التي لم تتأثر بالجائحة بشكل إيجابي ، كما إنه لم يتأثر كذلك بالنداءات والمبادرات التي تنادي بوقف إطلاق النار وتكثيف الجهود لمواجهة الجائحة ، ومن ثم لم يتأثر الصراع الليبي بنداء الأمين العام للأمم المتحدة بضرورة حدوث وقف إطلاق نار شامل.
بل ما حدث هو أن الوضع قد إزداد سوءاً في المشهد الليبي ، حيث أن الصراع الليبي قد أصبح أكثر تعقيداً وتداخلاً وزادت حدته ، حيث أن الصراع الليبي لا يشمل فقط علي أطراف الصراع المحلي التي تتنافس علي السلطة ، ولكن كذلك يتسم الصراع بكثرة الفاعلين الإقليميين والدوليين الذين يؤثرون في هذا الصراع ، ولهم دور فيه يكاد أن يصل إلي تواجد مباشر وعلني في سبيل حماية ما يعنيهم من مصالح استراتيجية في ليبيا ، ومن ثم كان من الطبيعي مع تفشي الجائحة وكثرة الأطراف من تطور الأوضاع بشكل سريع نحو التصعيد ، حيث يعمل الطرف الذي يشعر بالتهديد لمصالحه بالعمل علي تزكية الصراعات بشكل أكبر ، مما يزيد من حدة الصراع بشكل كبير.
وعلي الرغم من هذه التغيرات والتطورات التي صاحبت فترة تفشي الجائحة ، والتي كانت بشكل مفاجئ في صالح حكومة الوفاق الوطني علي حساب قوات حفتر ، يَصعُب القول بأن الصراع الليبي علي وشك الإنتهاء ، أو إنه يمكن حسمه في صالح طرف علي حساب الآخر ، حيث أن الوضع والصراع في ليبيا أكثر تعقيداً من ذلك ، نظراً لكثرة الفاعلين وتضارب المصالح وتداخلها ، مع تفشي الجائحة كذلك لتزيد من الظروف المعقدة أساساً التي تحيط بالصراع ، والتي يُمكن أن تُمثل فرصة أو تحدي لكافة الأطراف الفاعلة في الصراع الليبي.
فيمكن أن تُساهم الجائحة في ترجيح كفة طرف علي حساب طرف آخر ، كما حدث مع حكومة الوفاق الوطني في ضربتها الأخيرة ، كما إنها في ذات الوقت يُمكن أن تسمح بفرصة لطرف أن يقوم بمفاجئة طرف آخر ، مما يعني أن الموازين يُمكن أن تنقلب من جديد ، ومن ثم يُمكننا القول أن التهدئة في حالة الصراع الليبي لم تكن هي النتيجة المصاحبة لتفشي الجائحة ، ولكن تصعيد الصراع وترسيخه وزيادة حدته وتعقيده كان هو النتيجة الواضحة لتفشي الجائحة في الحالة الليبية.
________________
المصدر: دراسة الباحثة سهيله احمد سعيد ابراهيم في كلية الاقتصاد والعلوم السياسي – جامعة : القاهرة، بعنوان “تأثير جائحة كوفيد-19 علي الصراعات المسلحة العربية: دراسة مقارنة لحالتي سوريا وليبيا في الفترة من (2020-2021)”