سعد محيو
كل المحلِّلين، في الشرق والغرب، يجمعون الآن على أن الربيع العربي، دخل مرحلة الغسَق أو حتى الشتاء، وبالتالي، هذا يعني ضمناً على الأقل، أن صفحة هذا الربيع طُـوِيَـت نهائياً وأن العمل “سيستأنف كالمعتاد” بالنسبة إلى الأنظمة السُّلطوية العربية.
بالطبع، شهد هذا الربيع بالفعل انتكاسات واضحة، من مصر إلى سوريا، ومن ليبيا إلى اليمن، لكن هذه في الحقيقة تطوُّرات “طبيعية“، إذا ما وضعناها في سياقاتها التاريخية، إذ أن معظم (أو حتى كل) الثورات في التاريخ، شهدت ثورات مضادّة، سواء نجحت أو فشلت هذه الأخيرة في تصفية هذه الثورات. وثورات الربيع العربي لن تكون استثناء هنا.
كيف؟
قبل محاولة الإجابة على هذا السؤال، فلنتوقّف معاً قليلاً أولاً أمام تجارب الثورات المضادّة في التاريخ الحديث.
الثورات المضادة
أول ما يَتبَادر إلى السؤال هنا قبل الانتقال إلى التجارب، هو التعريف. فـ “الثورة المضادّة” كما حدّدها علماء السياسة منذ أيام الثورة الفرنسية عام 1789، تشير إلى الحركات التي ترفض ثورة ما، فتعمل على إعادة الأمور أو المبادئ السابقة إلى ما كانت عليه قبل الحِقبة الثورية.
الثورة المضادّة بهذا المعنى، يمكن أن تكون سلبية أو إيجابية. هي سلبية، إذا ما أرادت وقْف مسيرة التطوّر. وهي إيجابية، إذا ما عملت على إعادة الأمور إلى نِصابها، مثلاً كاستئناف العمل بالقواعد الدستورية والديمقراطية.
نماذج الثورات المضادّة في التاريخ تكاد لا تُحصى:
ثورة اليعاقبة لإعادة ملكية عائلة ستيوارت إلى الحُكم منذ عام 1688م.
الثورات المضادّة للملكيات الأوروبية لإحْباط ثورات 1848 الشعبية.
الثورة المضادّة للملكيين الفرنسيين في القرن التاسع عشر.
ثورة حكومة فيشي المضادّة الفرنسية خلال الحرب العالمية الأولى، التي استبدلت شعار الثورة الفرنسية “الحرية، المساواة، الإخاء“، بشعار “العمل، العائلة، الوطن“.
وفي إيطاليا، وبعد زحْف جيوش نابليون، نشبت ثورة مضادّة، أهمّها ثورة “سانديسمو“، وهي حركة رِجعية قادَها الكاردينال فابريزيو روفو، سمحت بعودة أسرة البوربون إلى عرش مملكة نابولي. ثم اندلعت ثورة أخرى فِلاحية في شمال إيطاليا، بحفز من أسْرة البوربون والدول البابوية ما لبثت أن تحوّلت إلى حرب أهلية دامت نحو عشر سنوات.
في روسيا قام “الجيش الأبيض” بثورة مضادّة على الثورة البلشفية في عام 1917، فيما كانت القوات الألمانية تسحق ثورة 1918- 1919 الشعبية.
وفي وقت قريب، أي عام 1961، كان المنفيون الكوبيون يشنّون ثورة مضادة عبْر غزْو خليج الخنازير بدعم من القوات الأمريكية لإطاحة حُكم فيديل كاسترو، فيما كان متمرِّدو الكونترا يقومون هم أيضاً بثورة مضادّة لإطاحة النظام السانديني في نيكاراغوا.
أين الربيع؟
المعادلة إذن بسيطة: كل ثورة يكون لها في الغالب ثورة مضادّة، وهذا من طبائع الأمور، لأن من البديهي أن تقوم أطراف الأمر الواقع في أي نظام بالدفاع عن سلطتها ومصالحها بكل الوسائل الممكنة.
أما احتمال نجاح أو فشل الثورات المضادّة، فيعتمد بالدرجة الأولى على عاملين إثنين:
مدى قدرة أصحاب الثورة على الدفاع عن ثورتهم من خلال تحصينها بالدّعم الشعبي الكامل لها (وهذا ما فعلته الثورات الفرنسية والأمريكية والصينية والفيتنامية)،
ومدى توافر الظروف الخارجية الملائمة لنجاح الثورة (كما حدث لثورات 1848 التي لم تحز على ظرف خارجي مُلائم، على عكس الثورتيْن، الأمريكية والفرنسية).
بالعودة إلى ثورات الربيع العربي، نجِد أن العامل الأول مفقود، فيما العامل الثاني كان نِصف موجود.
فجماعة الإخوان في مصر فشلت حين وصلت إلى السلطة في بناء جبهة مُوحّدة من قِوى المعارضة، التي قامت بالثورة، في وقت كانت قِوى النظام القديم تُعيد تنظيم نفسها استِعداداً لشنّ ثورتها المضادّة.
وتكرّر الأمر نفسه في سوريا، التي فشلت ثورتها في مرحلتها الأولى في طرح برنامج تغييري شامل، يمكن أن يستقطب الأقليات والمذاهِب وحتى سكّان المدن السُنّة، ما سهَّل على الثورة المضادّة التي شنّها النظام، أن تحوِّل الثورة إلى حرب أهلية مدمِّرة وأن تطلق العِنان للأصوليين المتطرِّفين الذين يشكِّلون غِطاء ممتازاً لطبعة النظام الخاصة من الديكتاتورية.
في ليبيا، كان الأمر أسوأ حين تحلّلت الثورة إلى فِرق ميليشيات وعِصابات، ما أفقدها كل مضامينها التحرُرية وفتح الأبواب والنوافذ على مِصراعيها أمام احتمال نجاح الثورة المضادّة.
وقد تكرّر الأمر نفسه في اليمن، فيما نجت الثورة التونسية “في اللّحظة الأخيرة” من هذا المصير (مرّة أخرى، حتى الآن على الأقل).
وعلى الصعيد الخارجي، صبّت الظروف الموضوعية، العربية والدولية، في غير صالح هذه الثورات، وسهّلت إلى حدٍّ كبير صعود الثورات المضادة.
بَـيْد أن قصّة الثورات والثورات المضادّة في الربيع العربي، لم تصل إلى خواتيمها بعدُ.
لماذا؟
بفعل عوامل عدّة، أهمّها أنه لا يزال يتعيّن على أنظمة الثورات المضادّة أن تُثبِت قدرتها، ليس فقط على البقاء، بل أولاً وأساساً أن في وُسعها تحقيق المطالِب الشعبية التي تسبَّبت أصلاً في اندلاع الثورات.
هذا إضافة إلى أن الفسحة الزمنية المتوافِرة لهذه الأنظمة، ليست كبيرة لتحقيق هذه المطالب، بسبب ما يسميه عن حقّ زبغنيو بريجنسكي “يَقَظة الشارع السياسي” في العالم.
بكلمات أوضح:
التاريخ لم ينته بعدُ بالنسبة إلى فصل الربيع العربي، كما يظُن الآن العديد من المحلِّلين في الشرق والغرب، الذين يتحدثون عن الانتقال إلى الشتاء. وهذا ما تؤكِّده ليس فقط يقظة الشارع السياسي العربي، “القادرة على إسقاط أي أنظمة مستبدّة أو فاشلة جديدة“، بل أيضاً بفعل طفرة ديموغرافيا الشباب المترافقة مع طفرة ثورة المعلومات.
وكل هذا سيضمّن أن يكون الربيع العربي بمثابة “بيْت بمنازل كثيرة” ومراحل عديدة، على حدّ تعبير المؤرّخ الكبير الرّاحل كمال الصليبي.
_____________