أمل بنجدو

عندما كنت في سن صغيرة، سمعت مرارا عن أشخاص قاسوا الأمرّين عندما تغرّبوا عن أوطانهم لسبب أو لآخر، كنت أشفق عليهم كثيرا وأتمنى لو أنهم وجدوا سبيلا آخر لحل أزماتهم المادية في غالب الأحياندون أن يجدوا أنفسهم مجبرين على العيش في بلد آخر غير الذي احتواهم لسنوات طويلة.

بلد مهما كان مُرَحِبّا بوجودهم إلا أنه حتما يُشعرهم بعدم الانتماء.

الآن كبرت كفاية حتى صرت أشفق على أشخاص يعانون نوعا آخر من الغربة، غربة من نوع خاص: غربة في أحضان الوطن.

أن يُشعِر الوطن أبناءه الذين لم يتعلّموا شيئا من مدرسة الحياة بعد بالغربة داخل حدوده الجغرافية هو كأن يشعر طفل لا يزال في سنواته الأولى بالحاجة لأم لا تعرف معنى الأمومة. إذ أن الطفل في سنواته الأولى يكون في مرحلة حرجة: مرحلة الاكتساب.

لا يحتاج المواطن لندوات عن الوطن والوطنية، إنه يحتاج لمن يسترجع ثقته في هذا الوطن، تلك الثقة التي فُقدت منذ زمن بعيد

في هذه المرحلة، يحتاج الطفل لحضن أمه والذي يعتبره المكان الوحيد الذي يُشعِره بالأمان.

يحتاج الطفل ليد تربّت على رأسه حينما يشعر بالرغبة في النوم أو حينما يصيبه الفزع.

يحتاج الطفل بعد ذلك لمن يشدّ يده ويشجعه على خطو أولى خطواته دون أن يتذمر من تعثراته المتكرّرة.

وبعد أن يكون قد تجاوز كل تلك المراحل، يحتاج لمن يثق به حتى يكتسب الجرأة ليصير مستقلا بذاته.

كذلك المواطن،

يحتاج أن يحبّ وطنه؛ إلّا أن حب الأوطان لا يأتي بالتّرهيب ولا بنهج دروس في التربية على المواطنة وتلقينها لتلاميذ من المحتمل أنهم يعيشون أسوء مظاهر الاضطهاد،

ليأتي أستاذ في وزرته البيضاء، يخبرهم مدى أهمية حب الوطن،

أو خطيب في المساجد يستظهر عليهم في خطبة الجمعة،

كلاما صار محفورا في أذهانهم من كثرة إعادته حتى صاروا يحفظونه عن ضهر قلب دون أن يستوعبوا معناه.

ثم يخبرهم بعدها أن حب الأوطان من الإيمان، مستعملا بعض أساليب التّرهيب أحيانا..

باختصار، لا يحتاج المواطن لندوات عن الوطن والوطنية، إنه يحتاج لمن يسترجع ثقته في هذا الوطن، تلك الثقة التي فُقدت منذ زمن بعيد، والتي حين تغيب،

وبعد أن يستنفذ المواطن محاولاته المتكرّرة في استجداء وطنه، يكون قد وصل لمرحلة يسخط فيها عن وطن أنجبه دون أن يمنحه حقوقه في العيش بكرامة كما يستحقّ.

وطن حيث نسمع مرارا عن سارقين زجّوا في السجون عقوبة على ما نهبوه من أشخاص أو مؤسسات.

لكن قلّما نسمع عن عقوبات وأحكام طبّقت في حق سارقي الوطن رغم أن المنطق يفرض العكس:

فالنوع الأول غالبا ما يكون سارق رغيفيقتات ممّا يسرقه، وربما يعيش بذلك أشخاص آخرين ممّن جعلهم القدر يعيشون تحت جناحيه.

بينما سارق الوطن لا ذريعة له مهما حاولنا اختلاق الأعذار له.

وطن حيث تتكاثر مظاهر العنف بشتى أنواعه وأساليبه، والتي ورثناها عن مجتمعاتنا حتى صارت جزءا من طقوسنا؛

وطن ينشئ جيلا من الأفراد غير مستقرين نفسيا بسبب مشاكل أسرية وأخرى راجعة لثقافة المجتمعات؛

وطن حيث يولد أطفال في بيئة هشة معنويا أكثر منها ماديا؛

وطن يحاسبهم على اختلافاتهم الدينية والعرقية وحتى الإيديولوجية؛

وطن يفضّل أبناؤه تركه للحدّ من الآلام ومن الآمال المرتطمة بواقع لا يسمح بالعيش الكريم.

___________

الجزيرة

مقالات مشابهة

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *