جمعة بوكليب 

مازلتُ أحملُ في رأسي ندبةَ جُرحٍ من ذلك اليوم. حجرٌ كبير أصابني، في معركة 7 أبريل 1976 في ساحة كلية الهندسة، بجامعة طرابلس، استدعى خروجي من المعركة، ونقلي إلى المستشفى الجامعي على وجه السرعة.

ومازلتُ أحملُ في قلبي حزناً، منذ ذلك اليوم، الذي مثّل علامةً فاصلةً في تاريخ الحركة الوطنية الطلابية الليبية. كان زمناً صعباً ومليئاً بالانكسارت والمرارات. وكانت مراكبنا صغيرة تبحر في مواجهة عاصفة مجنونة مدمرة. ولم يكن، واقعياً وفعلياً، بمستطاع قوة طلابية عَزلاء تعزم نظاما عسكريا ديكتاتوريا مجحفلا أمنيا وعسكرياً.

العزاءُ أن تلك القوة الصغيرة العزلاء، رغماً عن كل تلك المخاطر المحدقة، لم تجبن، ولم تتوان عن الدفاع على نفسها وشعبها ووطنها، أو تتخلى عن دورها الطليعي الديمقراطي التاريخي في المعركة ضد الاستبداد العسكري.

حين كتبتُ رواية نهارات لندنيةعام 2010، حرصت على توثيق جانب صغير مما حدث ذلك اليوم، وما حدث في اليومين السابقين له في مدينتي سلوق وطرابلس. لكن الحدثَ كان أكبر من أن يستوعبه فصلٌ قصيرٌ، في رواية صغيرة.

قبل أن أكتب وأنشر روايتي، سبقني صديقي الروائي المبدع صالح السنوسي بتوثيقها روائياً في روايته التسجيلية الرائعة يومياتُ زمن الحشربرصده ما حدث في جامعة بنغازي. وحتى ذلك الجهد الإبداعي ليس كافياً. لكن محاولة الصديق صالح السنوسي تستحق الإشادة والإعجاب.

ألا يذكر ذلك بقول الشاعروالكاتب الالماني نوفاليس-Novalis: “تنشأ الروايات لتسد نواقص التاريخ؟

كثيرون أمثالي، ممن عاصروا تلك الفترة الزمنية في جامعتي طرابلس وبنغازي مازالوا على قيد الحياة. وكثيرون منهم حباهم الله بذاكرات جيدة، قادرة على تذكر تفاصيل تلك الوقائع، أولاً بأول، لأنهم كانوا في وسط كانون النار.

لكننا جميعاً، حتى الآن، لم نفلح في الالتفات إلى تلك الحقبة، بوعي جماعي تاريخي، وبهدف توثيق نضال الحركة الطلابية الوطنية، في الداخل والخارج، ضد الحكم العسكري، على نحو يتيح حفظها ونقلها إلى الأجيال القادمة. وبالطبع، لا تفوتني الإشادة ببعض الجهود الفردية التي قام بها بعض الأصدقاء، بغرض التوضيح والتوثيق لما حدث. لكنها تظل جهوداً فردية محدودة.

أسبابٌ كثيرة تقف وراء ذلك، ومن أهمها أن القبضة الديكتاتورية للحقبة القذافية الطويلة ساهمت في عزوف الكثيرين عن محاولة الخوض في توضيح ما حدث، ولماذا حدث، وكيف دُبر الأمر، ومن الذين انحازوا إلى النظام، واختاروا أن يكونوا أدواته ووسيلته في تلك المعركة..

وأنا، في هذه السطور، أعذر الجميع، وأتفهم ظروفهم، ولا ألوم أحداً لأنّي منهم. ومع ذلك، ورغماً عن ذلك، وبعد عشر سنوات على سقوط وانهيار واختفاء الحكم العسكري، مازالت هناك فرصة ثمينة للمبادرة باللقاء والنقاش، بين من بقي، من رجال ونساء تلك الفترة، على قيد الحياة، بغرض توثيق تلك النضالات الوطنية لأهميتها.

ضربُ الحركة الوطنية الطلابية في ليبيا، لم يكن مفاجئاً. كانت كل المؤشرات تؤكد أن الضربة قادمة لامحالة. ثمة سوابق على الطريق تؤكد ذلك. كانت الضربة الأولى ضد التيارات السياسية الحزبية والمثقفين عام 1973.

أعقبها ضرب الحرّيات الصحفية وتأمميم وسائل الإعلام، وتلاها ضرب الحركة النقابية، ولم يبق على قيد الحياة سوى الحركة الطلابية الوطنية في جامعتي بنغازي وطرابلس.

التصفية النهائية تمّت في جامعة طرابلس، بميدان ساحة كلية الهندسة، يوم 7 أبريل المشؤوم من عام 1976.

مخالبُ القط التي استخدمها النظام العسكري في الجامعتين من الطلاب، ومن الجنسين، في معركته التي خطط لها ضد الحركة الطلابية المناوئة له، تخرجوا فيما بعد من الجامعتين، وأغلبهم أوفدوا للدراسة في الخارج، وعادوا ليتبؤوا مع غيرهم من الأتباع أعلى المناصب في الجامعات والمؤسسات والوزارات في الداخل، والسفارات في الخارج.

ومن المهم الإشارة إلى أن بعضهم حظي بمراكز متقدمة في حركة اللجان الثورية الفاشية، وخططوا، في ما بعد، ونفذوا عمليات اعتقال وسجن وتعذيب واغتيالات وشنق في الميادين، وفي شوارع العواصم الأوروبية والعربية.

الغريب أن بعضاً من أولئك، حتى بعد سقوط النظام، مازالوا يتبؤون مناصب قيادية مرموقة سواء في الحرم الأكاديمي أو في المؤسسات الحكومية، أو في الوزارات. ومازال بعضهم إلى يوم الناس هذا يتدافعون على نهب المال العام، ويظهرون في وسائل الإعلام وقد ارتدوا أثواب المخلّصين المنقذين!!

الغريب جداً، ألا تنتهز القوى الوطنية الديمقراطية الليبية الآن ذكرى 7 أبريل 1976 لتجميع الصفوف، وتعبئة الجهود، والسعي قدماً لضخ دم الحياة في الحركة الوطنية الليبية على أسس ديمقراطية، وخوض غمار المعترك السياسي من جديد.

_____________________

مقالات مشابهة

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *