من كلمات أربكان الخالدة: كل الربيع يبدأ بزهرة واحدة
أحمد يحي
عندما كان المفكر الإسلامي رئيس الوزراء التركي الراحل نجم الدين أربكان، يدعو إلى التغيير، قيل له “أنت رجل علم وكتاباتك جيدة، لكن الربيع لا يأتي بزهرة واحدة، ماذا ستفعل أمام عاصفة الجنرال؟” في إشارة إلى قائد الجيش محسن باتور، أحد قادة انقلاب 1971 العسكري.
لكن أربكان أجاب قائلا: “كل الربيع يبدأ بزهرة واحدة”، لتتحقق نبوءته بعد سنوات قليلة، وتشهد تركيا ربيع نهضتها من جديد، وتغلق صفحة الانقلابات العسكرية، وتشرع في طريق الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
في 27 فبراير/ شباط 2011 رحل أربكان، مهندس السياسة التركية، الذي تمسك بالهوية الإسلامية، وخاض غمار التجربة الإصلاحية في ظروف صعبة، وتميزت قيادته بالكاريزما، والإصرار، والشعبية الطاغية، وبالمرونة في نفس الوقت.
وأصبح أربكان ذلك الرجل الذي رحل وترك غرسا مازالت جذوره ممتدة إلى اليوم، نموذجا تركيا في غمار السياسة، يستحق أن يوقف عنده طويلا.
نبوغ مبكر
ولد أربكان في 29 أكتوبر/ تشرين الأول 1926، في مدينة سينوب، شمالي تركيا، وانتمى إلى أسرة عريقة محافظة، فوالده هو القاضي محمد صبري، ويعود أصله إلى عائلة كوزان أوغلو من السلاجقة الأتراك الذين حكموا مناطق كوزان، وصايمبلي، ووتوفانبيلي في أضنة نهاية القرن التاسع عشر.
انتقل أربكان مع عائلته إلى إسطنبول، والتحق بمدرستها الثانوية، وفي عام 1943 تخرج فيها حاصلا على المركز الأول، ما أظهر نبوغا مبكرا، وأعطاه ميزة الالتحاق بالجامعة دون اختبارات.
ومع ذلك فضل أن يختبر، ليدخل بعدها إلى جامعة إسطنبول التقنية، ويلتحق بكلية الهندسة الميكانيكية، ليتخرج فيها عام 1948، ويصبح لاحقا أستاذا مساعدا في قسم المحركات.
نبوغ أربكان العلمي وتفوقه جعله يذهب إلى أبعد من ذلك عام 1951، حيث أرسله الاتحاد الدولي للاتصالات إلى ألمانيا من أجل تعميق دراساته وإكسابه خبرة أكبر.
وهناك استطاع أن يحصل على لقب الدكتوراه من جامعة “أخن” الألمانية عام 1956، بفضل رسالة في هندسة المحركات.
وكان يمكن لأربكان أن يستمر في ألمانيا ككثير من الأكاديميين الأتراك، لكنه فضل العودة إلى بلاده لرغبة جامحة في نفسه أن يدعمها بخبراته التي اكتسبها.
وبالتوازي مع تعليمه الأكاديمي الرفيع، تأسس أربكان في كنف الطريقة النقشبندية برعاية شيخها محمد زاهد كوتكو، المتأثرة بالحركة النورسية وإمامها الشيخ سعيد النورسي، صاحب كتاب (رسائل النور) المرجعية الدينية لزعماء الإسلام السياسي التركي، وفي مقدمتهم أربكان.
معالم القيادة
ومن السمات المميزة لأربكان أنه لم يسلك رغم نشأته وجذوره الإسلامية، طريق الدراسات الدينية، لكنه اتجه نحو ميدان العلوم والسياسة والنضال ضد العلمانيين الذين كانوا يحكمون المجتمع والدولة بلا منافس، انطلاقا من الأتاتوركية الحديثة التي نحت الدين جانبا.
وانطلق أربكان فعليا إلى غمار بحر السياسة التركي المتلاطم، وأصبح رئيسا لاتحاد النقابات التجارية ثم انتخب عضوا في مجلس النواب عن مدينة قونية، لكنه منع من المشاركة في الحكومات المختلفة بسبب نشاطه المضاد للعلمانية.
وفي عام 1970 وبدعم من تحالف طريقته النقشبندية مع الحركة النورسية، أسس أربكان حزب النظام الوطني الذي كان أول تنظيم سياسي ذي هوية إسلامية تعرفه الدولة التركية الحديثة منذ زوال الخلافة عام 1924، وأصبح هو زعيما له وللحركة الإسلامية ككل.
بضعة أشهر فقط كانت عمر حزب أربكان المستجد، بعدها تم حله بقرار من المحكمة الدستورية بعد إنذار مباشر من قائد الجيش الجنرال محسن باتور.
فقام أربكان بدعم من التحالف ذاته بتأسيس حزب السلامة الوطني عام 1972، وأفلت هذه المرة من قبضة الجيش ليشارك بالانتخابات العامة ويفوز بخمسين مقعدا أعطته حق المشاركة في مطلع عام 1974 في حكومة ائتلافية مع حزب الشعب الجمهوري.
ثم تولى أربكان أولى مناصبه داخل دولاب الدولة الحكومي، عندما أصبح نائبا لرئيس الوزراء وشارك رئيس الحكومة بولنت أجاويد في اتخاذ قرارات مصيرية.
دخل أربكان التاريخ التركي من أوسع أبوابه في 20 يوليو/ تموز 1974، عندما أطلق العملية العسكرية “أتيلا” داخل جزيرة قبرص، واستطاع حماية الأتراك من بطش اليونانيين في الجزيرة.
وقتها وبأمر من أربكان الذي كان يشغل منصب نائب رئيس الوزراء اجتاحت القوات التركية الجزيرة القبرصية، ونجحت في تحقيق تقدم عسكري ملموس والسيطرة على ما يقرب من 39 بالمئة من أراضي قبرص.
بعد تلك العملية ارتفعت أسهم أربكان بشدة داخل المجتمع التركي، وأصبح في مخيلتهم زعيما ذا ثقل قادرا على اتخاذ أصعب القرارات.
وصل أربكان إلى ذروة شعبيته في عام 1980 عندما قدم حزبه مشروع قانون إلى مجلس النواب، يدعو الحكومة التركية إلى قطع علاقاتها مع إسرائيل.
وأتبع ذلك مباشرة تنظيم مظاهرة ضخمة ضد القرار الإسرائيلي بضم مدينة القدس، وكانت المظاهرة من أضخم ما شهدته تركيا في تاريخها المعاصر، الأمر الذي اعتبر استفتاء على شعبية الإسلام السياسي بزعامة أربكان.
وهو ما أقلق جنرالات الجيش بشدة، الذين رأوا في أربكان أكبر خطر يواجههم عبر تاريخهم، فقرروا التصدي له على طريقتهم الخاصة.
صخرة الانقلابات
ما هي إلا أيام قليلة، ووقع انقلاب 12 سبتمبر/ أيلول 1980 في تركيا، وهو أعنف انقلاب حدث في تاريخ الجمهورية على الإطلاق، قام به قائد الجيش كنعان إيفرين وأطاح بالائتلاف الحاكم وضمنه أربكان.
وبدأ سلسلة إجراءات كان من بينها إعادة القوة للتيار العلماني، عبر تشكيل مجلس الأمن القومي، وتعطيل الدستور، وحل الأحزاب، واعتقال الناشطين الإسلاميين إلى جانب اليساريين.
وكان من عواقب الانقلاب إيداع الزعيم الإسلامي نجم الدين أربكان السجن، أما حصيلة المأساة جاءت في سجن أكثر من نصف مليون مواطن تركي، وإعدام 517، ومحاكمة قرابة 230 ألف مواطن.
لكن بعد 3 سنوات خرج في إطار انفتاح على الحريات في عهد حكومة تورجوت أوزال، فأسس في عام 1983 حزب الرفاه الوطني، الذي شارك في انتخابات نفس العام لكنه لم يحصل سوى على 1.5% من الأصوات، نتيجة تخوف الجماهير من الأحداث السابقة.
لم ييأس أربكان وواصل جهوده السياسية حتى أفلح في الفوز بالأغلبية في انتخابات عام 1996 ليترأس حكومة ائتلافية مع حزب الطريق القويم الليبرالي برئاسة تانسو تشيلر.
ومن المثير أنه خلال رئاسة أربكان للحكومة كشف عن حلم المسيرات التركية، بعدما رفضت إسرائيل تزويد أنقرة بـ10 طائرات مسيرة، وتحديث 54 طائرة تركية من طراز “F-4″، مشترطة على حكومة أربكان، أن تسمح لطائراتها بالتحليق فوق شمال العراق، وهو ما رفضته أنقرة حينها.
وقتها قال أربكان مقولة خالدة: “الفنيون الأتراك سيكونون في المستقبل، قادرين على تولي ذلك بأنفسهم”.
وبعد قرابة ربع قرن من الزمان، تحققت هذه النبوءة، على يد مهندس شاب يدعى سلجوق بيرقدار، استطاع أن يحقق طفرة في تاريخ العسكرية التركية، بتطويره طائرات مسيرة مقاتلة، أحدثت نقلة نوعية في معارك بالقارات الثلاث.
الانقلاب الأخير
أربكان بصفته رئيسا لوزراء تركيا قام بأنشطة عديدة وإستراتيجية غير مسبوقة، فزار في أكتوبر/ تشرين الأول 1996، إيران ومصر وليبيا ونيجيريا، في إطار جهوده لتأسيس مجموعة الدول الثماني الإسلامية النامية، للعمل على تحقيق الازدهار الاقتصادي وبناء السلام والاستقرار والرفاه لشعوبها، وكانت هذه المجموعة غرس أربكان المستمر.
لكن الحدث الأبرز في تلك الحقبة هذه الأمسية الداعمة للقدس بالعاصمة أنقرة التي نظمها رئيس بلدية قضاء سنجان المنتمي إلى حزب الرفاه، في 31 يناير 1997، وقد دعا السفير الإيراني في تركيا لحضورها.
وقبيل ذلك الحدث كان مجلس الشورى العسكري الذي انعقد في أغسطس/آب 1996، قد وجه انتقادات لحكومة أربكان على خلفية ما وصفه بتصاعد “الأنشطة الرجعية”، وجاء انعقاد المجلس وسط حالة من تعالي الأصوات حول “تعرض نظام الحكم للتهديد” في البلاد.
وبالفعل كان أربكان وحزبه على موعد مع الانقلاب الأخير، في 28 فبراير/ شباط 1997، الذي عرف بـ”انقلاب ما بعد الحداثة”.
إذ أصدر مجلس الأمن القومي التركي، مذكرة تتضمن الآتي (إغلاق جميع مدارس تحفيظ القرآن الكريم، وحظر الحجاب تماما، والعمل بقانون الأزياء الرسمية، وإلغاء مدارس الطرق الصوفية، وتحديد 8 سنوات للتعليم الابتدائي).
ثم أجبر الجيش أربكان بالتوقيع على المذكرة، ثم قاموا بالسيطرة على وسائل الإعلام، وعزل ومحاكمة المناهضين للحركة الانقلابية.
بعدها قاموا بإقصاء كل من خالفهم في العملية، وأخيرا حظروا حزب الرفاه الحاكم بعدما تقدم نجم الدين أربكان باستقالته.
وحكم على عمدة إسطنبول حينها رجب طيب أردوغان بالسجن، ومنع من ممارسة السياسة، على خلفية إلقائه شعرا لم يعجب الانقلاب.
ثم دخلت البلاد في أزمة اقتصادية طاحنة، ووصلت تركيا إلى مستويات متدنية في جميع قطاعات الحياة اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا.
موت الزعيم
بعد الانقلاب وآثاره الكارثية، استعصى على أربكان أن يغادر الساحة السياسية فلجأ إلى المخرج التقليدي ليؤسس حزبا جديدا باسم الفضيلة بزعامة أحد معاونيه وبدأ يديره من خلف الكواليس، لكن هذا الحزب تعرض للحظر أيضا في عام 2000.
وفي 2003، عاد أربكان ليؤسس حزب السعادة، لكن خصومه من العلمانيين، وقادة الجيش المتقاعدين الذين كانوا لا يزالون يمتلكون سطوة ونفوذا، تربصوا به ليجرى اعتقاله ومحاكمته في نفس العام بتهمة اختلاس أموال من حزب الرفاه المنحل.
وحكم عليه بسنتين سجنا، وكان يبلغ من العمر 77 عاما، وبسبب حالته الصحية، خفف الحكم إلى الإقامة الجبرية حتى عام 2008، عندما أصدر الرئيس التركي آنذاك “عبد الله غول” عفوا رئاسيا عنه.
وفي 27 فبراير 2011، رحل الزعيم الإسلامي التركي نجم الدين أربكان عن عالمنا، داخل أحد مستشفيات العاصمة أنقرة.
وشيعت جنازته من إسطنبول، في حشد مهيب شارك فيه ملايين الأتراك، ومن ورائهم المسلمون في مختلف أنحاء العالم، ليوارى الثرى في مقبرة مركز أفندي الشهيرة.
وكان على رأس المشيعين، تلميذه، رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان، وقطع آنذاك زيارة رسمية لأوروبا لتشييع معلمه، وشارك أيضا بها الرئيس السابق عبد الله غول.
كما حضر الجنازة المرشد العام السابع لجماعة الإخوان المسلمين محمد مهدي عاكف، ورئيس حركة النهضة في تونس الشيخ راشد الغنوشي، وممثلون عن حركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية “حماس”، وكثير من العلماء والقيادات الإسلامية في العالم.
ليشهدوا دفن الرجل الذي أثرى الحياة السياسية في تركيا، وأعاد للإسلاميين والمحافظين موقعهم، بعد عقود من القهر والقمع، ومهد الطريق لتنمية كبيرة لا تزال آثارها متواصلة بالبلاد حتى اليوم.