جلبير الأشقر
خلا الإعلام العالمي من تشبيهات بين سلوك فلاديمير بوتين إزاء جورجيا في عام 2008 وإزاء أوكرانيا في عام 2014 ومن ثمّ في الظرف الراهن، من جهة، وسلوك صدّام حسين إزاء إيران غداة ثورتها وإزاء الكويت في عام 1990.
والحقيقة أن ثمة شبها واضحا بين السلوكين لو أمعنّا النظر فيهما، إذ لجأ الرجلان إلى القوة مصحوبة بادّعاءات متماثلة في تحقيق مطامعهما التوسّعية.
فقد اجتاح صدّام حسين أراضي الدولة الإيرانية في خريف عام 1980 مدّعياً نجدة سكّان محافظة خوزستان الناطقين بالعربية، بعد أن شجّع بعضهم على التمرّد على الحكم الإيراني وإعلان جمهورية «عربستان» المستقلة.
كان ذلك الاجتياح بداية لحرب دامت ثماني سنوات، كان مفعولها الأول أنها أتاحت للنظام الإيراني الجديد وضعَ حدّ لحالة الفوضى التي عقبت الثورة على حكم الشاه، وتمتينَ صفوفه. أما نتيجة الحرب فكانت عدداً إجمالياً من قتلى الطرفين قُدّر بالمليون وخراباً ودماراً واسعين، بلا طائل حيث عاد البلدان إلى نقطة الصفر عند الوقف النهائي للقتال.
وبعد عشر سنوات كرّر صدّام حسين سلوكه الأرعن باجتياح الكويت متحجّجاً بأنه محافظة عراقية اقتطعها البريطانيون، وقد كان في ذلك يستعيد مطالبة قديمة أدّت إلى توتّر عسكري بين حكم عبد الكريم قاسم والبريطانيين عندما قرّر هؤلاء منح الكويت «الاستقلال» في عام 1961.
أما نتيجة هذا الاجتياح الثاني فقد كانت أنه منح فرصة للولايات المتّحدة الأمريكية كي تنشر قواتها في منطقة الخليج على نطاق لم يسبق له مثيل، وتدمّر العراق إلى حدّ إعادته إلى «العصر الحجري» بشهادة مندوب الأمم المتحدة في ذلك الوقت، وفوق كل ذلك أتاحت تلك الحرب لواشنطن اعتلاء منصّة القوة العظمى الوحيدة في عالم بدا كأنه أصبح «وحيد القطب» بعد عقود من «ثنائية القطب».
وبصرف النظر عمّا إذا كانت مطالبة عرب خوزستان بالاستقلال ومطالبة العراق باسترجاع الكويت مشروعتين أم لا، فإن السلوك الأرعن يتجلّى في سوء تقدير موازين القوى في الحالتين بحيث خرج العراق من التجربتين مدمّراً وبمنتهى الضعف، ولم يفلح صدّام حسين سوى في تقوية الخصمين الإيراني والأمريكي اللذين حاول التغلّب عليهما، ظنّاً منه أن حالة الفوضى التي كانت سائدة في إيران في عام 1980 سوف تتفاقم إثر دخوله أراضيها، مثلما ظنّ في عام 1990 أن أمريكا المشلولة عسكرياً منذ خروجها من فيتنام لن تجرؤ على التصدّي له.
بات من المرجّح أيضاً أن يتصاعد الضغط الاقتصادي الغربي على روسيا بما يُضعفها، وهي تتصرّف عسكرياً بما يتعدّى بكثير طاقتها الاقتصادية إذ إن ناتجها المحلّي الإجمالي أقل من ناتج كندا، بل أقل من ناتج كوريا الجنوبية
فأين هو فلاديمير بوتين من كل ذلك؟ لا يخفي زعيم الكرملين أنه يحنّ إلى إمبراطورية القياصرة الروس، هو الذي لا ينفكّ يلوم البلاشفة على تطبيق مبدأ حق تقرير المصير في رسمهم لخارطة جمهوريات الاتحاد السوفييتي.
ويسعى جهده بالتالي لوقف توسّع حلف الناتو بضمّه لجمهوريات كانت قبل ثلاثين عاماً منضوية تحت راية الاتحاد وخاضعة للوصاية الروسية. وللحؤول دون التحاق جورجيا بالحلف الأطلسي، رأى بوتين في سنة 2008 (كان آنذاك يحكم من مقعد رئيس الوزراء وراء واجهة رئاسية اسمها دميتري ميدفيديف) أن يتذرّع من أجل اجتياح أراضيها بدعمه للانفصاليين بعد أن حرّضهم على إعلان «الاستقلال» في مقاطعتي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، مثلما فعل صدّام حسن إزاء «عربستان».
وفي عام 2014، للحؤول دون التحاق أوكرانيا بدورها بالحلف الأطلسي، تذرّع بوتين بما اعتبره خطأً ارتكبه حكام الاتحاد السوفييتي كي يجتاح شبه جزيرة القرم ويضمّها رسمياً إلى روسيا، مثلما حلم صدّام حسين أن يفعل إزاء الكويت.
كما تدخّل بوتين عسكرياً في مقاطعتي دونيسك ولوغانسك في شرق أوكرانيا بعد تشجيع الانفصاليين فيهما على إعلان «الاستقلال» بدورهما على غرار سابقة جورجيا وما حاول الزعيم العراقي تحقيقه في إيران. وفي الحالتين الجورجية والأوكرانية، رأى بوتين أن الولايات المتحدة أضعف من أن تتصدّى له حيث كانت في عام 2008 غارقة بصورة متفاقمة في أوحال العراق، وفي عام 2014 مصابة بتجدّد جزئي للشلل العسكري الذي أصابها إثر فيتنام.
والحقيقة أن الظروف في عامي 2008 و2014 بدت وكأنها تؤكد صحة تقدير بوتين. فقد وصلت حالة حلف الناتو إلى الحضيض مع فوز دونالد ترامب بالرئاسة الأمريكية في عام 2016، بما نزع ثقة حلفاء واشنطن التقليديين بمتانة الحماية التي توفّرها أمريكا لهم. وقد تمنّى بعضهم أن يمحي جو بايدن أثر ترامب لكن سريعاً ما خاب ظنّهم، بل وصلت مصداقية أمريكا بخروجها المشين من أفغانستان أمام الطالبان إلى أسفل نقطة أدركتها منذ استكمال هزيمتها في فيتنام بوصول القوات الشيوعية إلى العاصمة سايغون.
فرأى بوتين أن الوضع بات مؤاتياً لخطوة جديدة وصعّد بالتالي ضغطه على أوكرانيا، على خلفية تجدّد الاشتباكات بين الانفصاليين والحكم المركزي ودخول تركيا، عضو الناتو، على الخط بتسليمها طائرات مسيّرة للأوكرانيين. (والحال أن بوتين كان شديد الامتعاض من نجاح التدخل التركي في ليبيا في صدّ الهجوم الذي شنّه خليفة حفتر على طرابلس بدعم روسي.)
ولو أضفنا إلى ذلك الشُحّ العالمي الذي أدّى إلى ارتفاع أسعار النفط والغاز، مصدري مداخيل الدولة الروسية الرئيسيين، تكتمل صورة المشهد المؤات في نظر حاكم الكرملين.
أما بعد، هل يعني ذلك أن حسابات فلاديمير بوتين أرزن من حسابات صدّام حسين بصرف النظر عن التشابه في ذرائع مغامراتهما العسكرية؟ في الحقيقة، وإن كانت حسابات بوتين قد أصابت حتى الآن، فقد جازف مجازفة خطيرة بأفعاله الأخيرة إذ بات من المرجّح أن يستفيد جو بايدن منها في تلميع صورته الباهتة، وأن تعيد تمتين لُحمة حلف ناتو التي كانت مهلهلة، بل يُحتمل أن تحثّ جارتي روسيا السويدية والفنلندية على الالتحاق بالناتو بعد امتناع دام أكثر من سبعين عاماً.
والأخطر من ذلك أنه بات من المرجّح أيضاً أن يتصاعد الضغط الاقتصادي الغربي على روسيا بما يُضعفها، وهي تتصرّف عسكرياً بما يتعدّى بكثير طاقتها الاقتصادية إذ إن ناتجها المحلّي الإجمالي أقل من ناتج كندا، بل أقل من ناتج كوريا الجنوبية، لا يساوي سوى سبعة بالمئة ونيّف من الناتج الأمريكي!
***
جلبير الأشقر ـ كاتب وأكاديمي من لبنان
__________