علي الرفاعي زوبي

قياسا على حقيقة نعيش واقعها وهي أن ثورة 17 فبراير المجيدة لم تكتمل مهامها بعد، ولم تحقق جميع مطالبها، فإن ذلك يعني مسؤولية صياغة رؤية متكاملة تنهض بليبيا في الداخل وتحقق لها صعودا بين الأمم الصاعدة في الخارج، تقع على عاتق الحكومة القادمة التي أصبحت زمنيا على مقربة منها بعد انتهاء الحرب، حين تجري الإنتخابات بشفافية مطلقة، وسيكون لدينا برلمان، وحكومة، ورئيس حكومة. خاصة أن الحكومة الانتقالية الحالية قد واجهتها معضلات يومية خلّفها وراءه اللانظام الذي ذهب بغير رجعة.

الرؤية التي نريدها، لابد أن تسبق منطقيا أي خطوات لبناء الدولة الحديثة، كما أن نظام الحكم القادم عليه مسؤولية إكمال إنجاز الانسلاخ التام عن نظام سقط كان يأخذ الدولة معه إلى مهاوي الركود والجحود والتراجع، وأن يتحرك النظام الجديد بفكر استراتيجية عمل، تاخذ بيد ليبيا إلى عصر تُبنى فيه ليبيا الفتية المزدهرة، وهو ما كان الهدف الأسمى لثورة 17 فبراير المجيدة بحيث يُخرج ليبيا من التشوش الفكري الذي خيّم عليها بعمامة داكنة خلال الأشهر الماضية، تحجب الرؤية الكاشفة لأفق المستقبل.

ولا خلاف على تناطح الأفكار الذي أحدث تشويشا حادا بين عناصر الحراك السياسي، كان المثير للخوف على الثورة، لكن ذلك يظل من منظور السياسة استنادا إلى التجارب التاريخية وهي ظاهرة طبيعية عرفت باسم فوضى ما بعد الثورة، وهي ظاهرة سرعان ما تنحسر حين تشرع روح الثورة المتجددة، في الضبط الذاتي للخلل في مسارها، فما حدث يوم 17 فبراير، إذ كان يعد من الناحية العملية الواقعية مبادرة من طليعة من الشباب، إلا أن روح الثورة كانت طاقة الجذب والحشد للملايين لتحول مبادرة الشباب إلى ثورة مكتملة الأركان، ظهرت فيها المرأة جنبا إلى جنب مع الرجل والفتى والعجور.

وروح الثورة لا يصنعها تحريض من الداخل أو الخارج، لكنها استلهام من الخصائص التاريخية للشخصية الوطنية لليبيين، وهي خصائص متعددة رصدها علماء الإنسان والتاريخ، من بينها الصبر الواعي، واختزان تراكمات الغضب على نظام لا ينال الرضى العام وكراهيتهم له، وإعطاء ظهورهم له، بحيث ينعزل عن السياق العام للمجتمع.

ولأن الكثير جدا من الأفكار التي أُلقيت في مجرى نهر الدم الذي شقه ثوار 17 فبراير، قد بعدت بنفسها عن الخصائص الوطنية والتاريخية لليبيين، التي حفظت لليبيا أهم صفاتها: التسامح، والتدين الفطري، وكراهية التطرف والعنف الديني، “الولاء للحاكم”، لذلك فإن روح الثورة وهي منبع التغيير الذي جرى ويجري الآن، كفيلة بإعادة ضبط الأمور وتوازنها، والعودة بالثورة إلى أصلها وجوهرها.

ولما كانت مهام صياغة رؤية مكتملة تنهض بليبيا، ستقع على نظام الحكم القادم، فإن هناك دائرتين يفترض أن تشغلا الحكم الجديد من اللحظة الأولى:

الدائرة الأولى: أولوية وضع مشروع وطني للتقدم الاقتصادي، والنهضة الشاملة وذلك بتكييف مجموعات من المختصين والخبراء وأهل العلم والمعرفة وعلماء الدين، بأن ينشؤا لجانا تتوزع على مناقشة موضوعات، ثم يتم إجمال هذه الموضوعات في خطة كاملة للمشروع الوطني … ثم ماذا؟.

الدائرة الثانية: إن مشاكل ليبيا السابقة لن تحل بإجراءات مجزاة لهذه المشكلة أو تلك، لكن بتحرك حضاري شامل يدفع بدماء الحياة إلى جميع شرايين الدولة والمجتمع، التي تيبست إبان اللانظام السابق.

قد يكون مثل هذا المشروع طويل الأجل، ويمكن أن تسير في محاذاته مشروعات قصيرة الأجل، وعلى سبيل المثال فإن إعادة تنمية المشاريع المتوقفة على مستوى الوطن، تمثل ركنا مهما من أركان المشروع الوطني، وتتمتع بوجود بيئة تحتية تحت بند المشاريع الكبرى التي كان اللانظام يمنيها للشعب الليبي المغلوب على أمره.

في هذا الإطار تُرسم خطط متكاملة لمد جسور التعاون مع أفريقيا، وخاصة مع دول الجوار، وأن تكون هناك مواقف قاطعة من القضايا العربية والدولية تعكس روح ليبيا الثورة، وتتعامل مع الدول بمستوى التكامل الدولي، وليس التعامل المصلحي بدفع الدولارات لأغراض مشبوهة، لأسباب كان اللانظام يخطط لها، وظهرت لنا الآن في مرتزقة وقطاع طرق، وأمراض مستوردة ما أنزل الله بها من سلطان.

إن اكتمال رؤية ليبيا للسياسة الخارجية، التي قد تنجح فيه الخارجية الليبية بمعاونة أهل البر والخير في الخارج والداخل، هذا الاكتمال صار مطلبا ملحا، نحن نرى دول العالم وخاصة القوى الكبرى منها، وعلى رأسها الولايات المتحدة الامريكية، قد شكلت بوضع صياغات كيفية التعامل مع ليبيا بعد الثورة.

وما لوحظ من مناقشاتهم عبر الإذاعات، التي تطرقت إلى معنى أن الصورة شبه النهائية التي تكونت لديهم (الأمريكان) للنظام الجديد، وقواعد التعامل معه، والقوى الصاعدة المرشحة للمشاركة في إدارته، ويمكن أن تكون قابلة للتعديل نتيجة لثورة ليبيا والمنطقة العربية، وأن ذلك قد يدفعها لإعادة حساباتها تجاه المنطقة العربية التي تكونت لديها طوال عشرات السنين نظرة ثابتة، ترى أنها منطقة ساكنة، وأنها خارج حسابات إدارة النظام الدولي.

ذلك كله لابد أن تحتويه رؤية (ليبيا) التي نريدها، وهي مسؤولية يلزم أن يكون على قدر تحملها، ونحن في انتظار انتخابات نزيهة للجمعية الوطنية التأسيسية ثم البرلمان، والحكومة، ورئيس الحكومة، وقبل كل هذه النقاط يجب أن يكون هناك استتباب أمني صارم، بحيث ننعم بالأمن، وذلك بسحب السلاح من المدن بالكيفية والطرق التي ينظمها المجلس الوطني، وفي أسرع وقت ممكن، ومن تفعيل قانون المرور بقوة، وتفعيل القضاء بعد إعادة هيكلته، وترك ترسبات العرف قبل القانون الذي أحدثه اللانظام السابق. كذلك نشر الوعي بين المواطنين بإثراء الندوات الفكرية التي تعمّق التنمية البشرية للفرد والمجتمع وتطوره، وهو ما ينقصنا الآن.

وأخيرا، إن ممارسة وضمان الحقوق والحريات العامة، تؤدي إلى بناء دولة مؤسسات مدنية أساسها مشاركة كل الأفراد في تسيير الشؤون العمومية، والمقدرة على تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة، وضمان الحرية لكل فرد، وهو ما ظهر من أجله شباب 17 فبراير.

______________

مقالات مشابهة

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *