د. جازية شعيتير

ملخص

  • تفترض الدراسة أن الفساد مقوض للمؤسسات الديمقراطية، ويمثل خطرًا على التنمية المستدامة وسيادة القانون؛ ويمثل تحديًا في طريق أي عملية سياسية حقيقية لإعادة بناء الدولة الليبية ومؤسساتها.
  • مقاربة الدراسة تشمل الفساد بكافة صنوفه المجرمة في الاتفاقية الدولية والتشريعات الليبية، وهي مقاربة قانونية-اجتماعية إذ تولي الدراسة اهتمامًا بالبيئة الاجتماعية التي يفرَز فيها الفساد، والتي تطبَّق فيها السياسات التشريعية المكافحة له، كما أنها مقاربة حقوقية تفترض قوة العلاقة بين الفساد وحقوق الإنسان سواء من حيث إن الفساد يشكل انتهاكًا واضحًا لحقوق الإنسان، أو من حيث تأثير تدابير مكافحة الفساد على حقوق الإنسان.
  • تذهب الدراسة إلى أن للفساد علاقة تأثير تبادلية مع البيئة المحيطة به التي يتمظهر خلالها؛ وحيث إن للبيئة المحيطة سياقات عديدة: سياسية واقتصادية واجتماعية وأمنية ودولية وثقافية وحقوقية، ومنها ما يتعلق بالسلطة التشريعية أو التنفيذية أو القضائية؛ فلا مناص من تتبعها.
  • توصي الدراسة بألا تقتصر مكافحة الفساد على مواجهة تمظهراته بأدوات قانونية بحتة بقدر ما تلزم إصلاح الاختلالات في البيئة المحيطة به من خلال تبني سياسات عامة بغية الوصول إلى رؤية مكافحة مؤسسية ومجتمعية. وعليه فقد تناول الجزء الثاني من الدراسة عرض خطة شاملة لتدابير مكافحة الفساد بدءًا من التدابير الدستورية والقانونية مرورًا بالتدابير التنفيذية والرقابية، ولم تهمل التعاون الدولي بصدد مكافحة الفساد، كما رسمت سياسات عامة ناجعة لمكافحته.

الجزء الأول

 مقدمة

1.1 محل الدراسة

محل هذه الدراسة هو الفساد المعيق لاستقرار المجتمعات والمقوض للمؤسسات الديمقراطية وللقيم الأخلاقية والذي يعرض التنمية المستدامة وسيادة القانون للخطر؛ ويشكل تحديًا في طريق أي عملية سياسية حقيقية لإعادة بناء الدولة الليبية ومؤسساتها، والخطورة الحقيقية للفساد تكمن في مستقبل الدولة الليبية، حيث إن تواصل هذا النزيف لموارد الدولة وأموالها العمومية سيؤثر حتما في مصير الأجيال القادمة.

ولعل تعريف منظمة الشفافية الدولية ومنظمة الأمم المتحدة أكثر دقة وشمولًا إذ اتفقتا على أن الفساد هو إساءة استعمال السلطة لمن اؤتمن عليها للحصول على مكاسب شخصية، وإضرارًا بالمصلحة العامة.

والفساد قد صار ظاهرة في ليبيا بشتى أشكاله (الصغيرة والكبيرة) ودوافعه (الحاجة والجشع) وحوافزه (العرض والطلب)، ويكفي للتدليل على ذلك الإحالة إلى مرتبة ليبيا المتقدمة في قوائم الدول الأكثر فسادًا في العالم حسب مؤشرات منظمة الشفافية الدولية، أو الإحالة إلى تقارير ديوان المحاسبة الليبي، ويكفي أيضًا النظر إلى أوضاعها السياسية والاقتصادية وإلى كل المرافق الخدمية لنتيقن بأن مظاهر الفساد تتجلى لكل المهتمين بالشأن الليبي.

1.2 مقاربة الدراسة

مقاربة زمنية: تقتصر على المرحلة الانتقالية للدولة الليبية خلال العقد الثاني من الألفية الثالثة؛ من 2011 إلى 2021.

مقاربة شمولية: تتناول الفساد بكافة صنوفه المجرمة في الاتفاقية الدولية والتشريعات الليبية.

مقاربة تحليلية: تنتهج تحليل تقارير ديوان المحاسبة، والتشريعات الليبية، والأحكام القضائية الليبية.

مقاربة إمبيريقة: تستخدم المنهجية الكيفية؛ بالإفادة من مجموعات التركيز، والمقابلات المعمقة التي أجرتها الباحثة في دراسة سابقة بالخصوص، إضافة إلى مسوح واستطلاعات رأي أُجريت في ليبيا خلال الفترة الزمنية الواقعة في نطاق البحث.

مقاربة قانونية-اجتماعية: تولي الدراسة اهتمامًا بالبيئة الاجتماعية التي يفرَز فيها الفساد، والتي تطبق فيها السياسات التشريعية المكافحة له.

مقاربة حقوقية: تفترض الدراسة قوة العلاقة بين الفساد وحقوق الإنسان سواء من حيث إن الفساد يشكل انتهاكًا واضحًا لحقوق الإنسان، أو من حيث تأثير تدابير مكافحة الفساد على حقوق الإنسان.

1.3 إشكاليات الدراسة وفرضياتها

إن الفهم الصحيح لظاهرة الفساد في ليبيا ومحاولة تفسيره يفترض به أن يفضي لمقترحات بسياسات تتضمن تدابير أكثر فاعلية ونجاعة في مواجهته، وتقوم هذه الدراسة على فرضيتين:

  • فرضية رئيسة مفادها أن للفساد علاقة تأثير تبادلية مع البيئة المحيطة به التي يتمظهر خلالها؛ وحيث إن للبيئة المحيطة سياقات عديدة،فلا مناص من تتبعها لرصد هذا التأثير.
  • وعليه فمن المنطقي ألا تقتصر مكافحة الفساد على مواجهة تمظهراته بأدوات قانونية بحتة بقدر ما تلزم إصلاح الاختلالات في البيئة المحيطة به من خلال تبني سياسات عامةبغية الوصول إلى رؤية مكافحة مؤسسية ومجتمعية.

2- السياقات العامة للفساد

لا توجد ظاهرة الفساد في فراغ بل ضمن سياقات بعينها، نرصد في هذا الجزء من الدراسة تأثير تلك السياقات على تنامي ظاهرة الفساد، ومن ثم على حظوظ أي سياسة إصلاحية لمكافحته.

2.1 السياق السياسي

لا يخفى على أحد أن الدولة الليبية منذ 2011 في حالة انتقال من نظام استبدادي، وللأسف لم يكن انتقالا سلميًا بل توسل الصراع المسلح مما باعد بينها وبين الديمقراطية، وهذه الحالة تحديدًا تجعلها عرضة أكثر من سواها للفساد؛ حيث مؤسسات الدولة غير قادرة على فرض النظام والقانون، كما أن الطريقة التي انتهي بها الصراع المسلح في 2011 وما خلقته من بيئة هشة واعدة لعودته مجددًا، وكيفية صياغة الإعلان الدستوري المؤقت والتعديلات الكثيرة له، وأيضًا الطريقة التي انتهى بها الصراع المسلح في 2014من تقسيم للسلطات التشريعية والتنفيذية، وملابسات الاتفاق السياسي “الصخيرات” 2015 ونكرانه من الأطراف الموقعة عليه – كل ذلك من العوامل المؤثرة في الفساد، وأخيرًا هذا السلام الهش الذي فرضته خارطة الطريق على الفرقاء السياسيين المتحاربين، والذي كان نتاجًا لعملية تفاوضية لم تنجُ من ادعاءات بشبهة فساد. وبالرغم من أن حكومة الوحدة الوطنية تدعي التصدي للفساد، فإن ادعاءها ضعيف؛ حيث إن فتح ملف الفساد يعني المواجهة مع شخصيات ذات نفوذ مناطقي وأطراف سياسية، وهذا يعارض هدف الحكومة الرئيسي بالابتعاد عن الصدام مع أي طرف.

كما أن إرث الدولة الشمولية ذات الفساد طويل الأمد وإرث الفساد الذي نمى خلال فترة العشرية الأخيرة يمهد الطريق نحو المزيد من الفساد، ويتوقع أن يُحتفظ بسلوكيات وشبكات وعملاء للفساد بما يشكل تحديًا لسلطة الدولة في فترة السلم المأمولة مستقبلًا، ولعلنا نلاحظ غيابًا واضحًا للإرادة السياسية الحقيقية لمكافحة الفساد في كل مستويات الحكومات الانتقالية المتعاقبة، ولن نستطيع أن نتغافل عن الفوضى التي واجهتها الحكومات الانتقالية حتى التي خلقتها الحكومات الانتقالية نفسها فأنشئت مناخًا مناسبًا لتنامي الفساد في ليبيا، ناهيك عن أن الانقسام المؤسساتي، والصراع بين الشرعيات الموازية، وانتشار المجموعات المسلحة بالقرب من مركز إصدار القرار – تقف وراء تفشي الفساد الذي شمل كل مفاصل الدولة.

2.2 السياق الدولي

يجب الإقرار بأن الفساد في ليبيا لم تساهم فيه الأطراف الداخلية فقط حيث تدخلت أطراف خارجية لأخذ نصيبها من الثروة النفطية الليبية، حيث دخلت فرنسا الدولة الأكثر تأثيرا من القوى الغربية في دعم الحرب التي وقعت في البلاد 2011 بشرط الانتفاع بامتيازات في قطاع البترول والغاز حيث ذكرت صحيفة ليبيراسيون الفرنسية سنة 2011 أن المجلس الانتقالي وعد باريس بـ 35 بالمئة من عقود النفط، وهي عقود غير قانونية وقعت تحت الابتزاز، على حد قول الصحيفة.

كما كان التدخل القطري واضحًا في علاقته بملف النفط الليبي، حيث ذكر وزير النفط ناجي المغربي في تصريحات صحفية أن قطر عبر شركة تنتج حوالي 240 ألف برميل يوميا، مسجلة في سويسرا استولت على 19.5 في المائة من عائدات الشركة، وهو ما يُعَد انتهاكًا وتعديًّا على حقوق الشعب الليبي.

وفي 22 أكتوبر 2017، تناقلت الصحف الدولية وقائع فساد ليبية مثل: تهريب وقود ليبي بقيمة 35 مليون دولار، من مصفاة الزاوية لتكرير النفط (غرب العاصمة)، وبيعه في أسواق دول أوروبية”.

كما أن بعض الشركات متعددة الجنسيات وغيرها من الكيانات الاقتصادية المؤثرة عالميًا قد امتدت إليها عوامل الفساد ومظاهره؛ ولن نحارَ في إيجاد أمثلة تتعلق بالحالة الليبية؛ فما يثار في بلجيكا وفي كندا وما قيل بشأن ساركوزي. كل تلك الوقائع تُعد أمثلة للفساد الدولي المتعلق بليبيا.

2.3 السياق الاقتصادي

كثيرًا ما بُرر الفساد الليبي بهوية الاقتصاد الليبي “الريعي”؛ على أساس أن الدولة الريعية بيئة ملائمة لولادته ونموه؛ فاقتصاد الريع يقوم أساسًا على استغلال النفوذ والسلطة وليس على المعرفة أو المنافسة أو الجودة، ولذلك فهو يمثل الرشوة العظمى والفساد في أكبر تجلياته، لسبب بسيط هو أنه ينشر القابلية للارتشاء والوصولية وثقافة الاعتماد وعدم الإبداع والتقليد والاستكانة، واقتصاد الريع عدو خطير للحقوق الاجتماعية والاقتصادية، وهو يتعارض مع القانون ومع الشفافية والحوكمة الاقتصادية الجيدة، ومن ثم مع دولة القانون في مجال الاقتصاد.

وليبيا دولة ريعية؛ حيث الاعتماد على النفط موردًا وحيدًا للدولة والاعتماد على الدولة في كل القطاعات الخدمية، وصرف مرتبات وظيفية لكل الليبيين بما يشبه الحصة في العائد الاقتصادي، وغياب تنظيم قانوني للقطاع الخاص المحلي والإشراف عليه، وهروب المستثمر الأجنبي الذي كان يفترض أن ينافس حول الجودة والفاعلية؛ كل ذلك ساهم في زيادة نمو الفساد.

كما أن المصارف الليبية منذ 2013 بدون استثمار وبدون ائتمان واختفت أسواق المال، بل إن الانقسام السياسي الذي تمظهر في وجود حكومتين، زاد من سوء الوضع المصرفي حيث اقترضت الحكومة المؤقتة من المصارف بما جعلها عاجزة عن تقديم الخدمة العادية في تسييل المرتبات وهو ما سبب الأزمة المالية التي تعاني منها الدولة حاليًا إضافة لأسباب أخرى كثيرة.

يحلم الجميع في ليبيا بالسلطة ليملك المال ويصرفه؛ حيث مركزية الإيراد والخزينة وعدم وجود استقلالية مالية لأي مؤسسة ليبية منذ 1969، والموازنات العامة وهمية؛ إذ لا أساس محاسبي من الإيرادات والمصروفات؛ فكلها مصروفات.

كما أن غياب الاعتماد على الناتج المحلي من رسوم الميناء والمطارات وغياب آليات فاعلة لجباية الضرائب وغياب تنوع الاقتصاد الليبي سواء سياحة أو زراعة أو صناعة من العوامل الاقتصادية المساهمة في تفشي الفساد.

إضافة لارتباك المشرع في سن ما يبين ويعزز هوية الاقتصاد الوطني؛ فنظام التشريع القائم يفترض الهوية الاشتراكية للاقتصاد الليبي، والواقع المعيش حاليًا يبين أن الاقتصاد الليبي تحول إلى الرأسمالية بدون تنظيم قانوني وهذه الفجوة التشريعية تخلق بيئة صالحة للفساد.

2.4 السياق الثقافي

يغلب على العقل الجمعي الليبي مجموعة من الثقافات المعززة لحظوظ انتشار الفساد فهي تهيئ المجتمع لعدم استهجانه، منها مثلا: ثقافة الاتكالية وثقافة الغنيمة وثقافة الريعية حيث الاعتماد الكلي على الدولة في توزيع موارد دخل طبيعية بدون عمل حقيقي؛ وثقافة “رزق حكومة. ربي يدومه”، “هي خاربة خاربه” “جت عليا نا”، هذه مفردات من القاموس المحلي الليبي يعلل بها بعض الأفراد إقدامهم على الاختلاس والهدر والسرقة من أموال الدولة، أو معاملة ممتلكاتها بالتخريب والإهمال. وكلها ثقافات سلبية ساهمت في استمراء الفساد.

ولعل المنظومة الإدارية ذات القيم الثقافية السيئة تُعد عاملًا ثقافيًا إضافيًا ومن تلك القيم السلبية: التسويف، والاستعلاء والتجهيل، وإساءة استغلال النفوذ، والإهمال.

كما يمكن رصد غياب الثقافة الإدارية الليبية الملزمة للدولة من خلال مرافقها العامة، بتأدية خدمات المواطنين على النحو الواجب وفي وقت معقول دونما مقابل، باستثناء المفروض قانونًا من ضرائب أو رسوم.

وعلى الرغم من إعلان غالبية الليبيين (80.4%) التزامهم بالمثالية القيمية ورفضهم المطلق لقبول الرشوة مقابل أداء واجباتهم، فإن واقع الحال يوضح تعاملهم معها وإصدار فتاوى دينية تجيزها للمضطر منهم؛ مما يعزز ثقافة الاستكانة والرضوخ لهذا السلوك المشين. وهي فتوى تجيز فعلًا محظورًا قانونًا؛ مما يضيع هيبة النص القانوني في نفوس الأفراد ويُجرئهم على انتهاكه. فالنظام قانوني الليبي يجرم فعل الراشي ويعاقب عليه بالسجن ولا يعتد بكون المطلوب من الموظف حقًا لهذا الراشي إلا في باب تخفيض العقوبة إلى حد النصف (المواد 22/25 من قانون الجرائم الاقتصادية رقم 2 لسنة 1997).

2.5 السياق الاجتماعي

الفساد يعمل على تشقق البنية الاجتماعية وتآكل الطبقة الوسطى، خاصة في مجتمع يتميز بالنمط الاستهلاكي، وهذا النمط متى تضافر مع عوامل اقتصادية صعبة، كأزمة السيولة التي يعيشها المجتمع الليبي منذ 2014، فقد يسوّل لبعض النفوس انتهاج الفساد للحفاظ على مستوى معيشي اجتماعي معين، ولا سيما في غياب وصمة العار لمن يُعرف عنه أنه من المفسدين، بل إن الملاحظ على الوسط الاجتماعي الاحتفاء بالأغنياء دون الاكتراث بمصدر غناهم، لا سيما في ظل شيوع مظاهر البذخ والترف، ويشيع في الأوساط الاجتماعية حاليًا مصطلح “حي اللصوص” للدلالة على حي سكني يقطنه أغنياء من ذوي الياقات البيضاء، كما يشيع مصطلح “شارع غسل الأموال” للدلالة على شارع تجاري مليء بالمحال التجارية مشبوهة المصدر انتشرت إبان الصراع المسلح وملاكها غرباء عن السجل التجاري الرسمي، دون أن يترتب على ذلك ردة فعل اجتماعية تمثل رفضًا لهؤلاء اللصوص أو أولئك الفاسدين سواء بالامتناع عن المصاهرة أو الإحجام عن الشراء أو غير ذلك.

وعلى مستوى المعاملات الإدارية نلحظ أن القبول المجتمعي للفساد وتمظهراته ينفي صفة الانحراف الاجتماعي عن الفساد مما يُعد عاملا مهمًا لتفشي هذه الظاهرة.

ومن العوامل الاجتماعية بالغة الأهمية الولاءات الأسرية والقبلية حتى الجهوية، وهي ولاءات تأثيرها في الوسط الإداري والمؤسسي يحولها إلى قيم سلبية ويُنتِج عنها قيمًا أكثر سلبية ومنها المحسوبية والواسطة، وانتشار لثقافة التستر على الفساد متى كان الجاني من ذوي القربى أو من المقربين، حيث تتولي الحواضن الاجتماعية كالقبائل والمدن تبرير التجاوزات التي يرتكبها المسؤول الذي ينتمي إليهم، ومن ثم يطالبون بتأجيل محاسبته.

2.6 السياق الحقوقي

من المهم أن نسلط الضوء على الأثر السيئ للفساد من منظور حقوقي؛ حيث إن مجرد حصول الفرد على هذه المنفعة نتيجة لاستغلال موقعه الوظيفي، أو نتيجة لدفع الرشوة هو في المحصلة النهائية انتهاك لحقوق الآخرين في هذه المنفعة. فإذا كان ما حصل عليه الفاسد وظيفة لابنه أو لأحد أقاربه؛ فقد حرم منها شخصًا آخر قد يكون أكثر حاجة إلى هذا العمل أو أفضل تأهيلًا للقيام به. وانتهك بذلك الحق في المنافسة العادلة على الوظائف. أما إذا كان ما حصل عليه الفاسد هو ترخيصًا لتسيير حافلة ركاب، أو تغييرًا لطبيعة استخدام أرضه، أو تصريحًا لفتح محطة محروقات، أو إعفاءً من غرامة مستحقة بموجب القوانين، أو مقعدًا جامعيًا لابنه، أو بعثة دراسية لأخيه، فإنه يكون بذلك قد انتهك الحق في المساواة والمعاملة العادلة، كما أن عدم إفساح المجال أمام المواطنين للمشاركة السياسية الحقيقية وإدارة شؤونهم العامة، ودفع الرشاوي من قبل السياسيين لشراء أصوات الناخبين يُعَدّان من صور الانتهاكات الواضحة للحقوق السياسية والمدنية في كثير من الدول.

فالفساد يفضي إلى إنشاء شبكات إجرامية تعمل على نشر انتهاكات حقوق الإنسان؛ تلحق بدورها أبلغ الأذى بالفقراء والمهمشين. فعلى الرغم من أن الفساد ينتهك حقوق كل الأفراد الذين يتأثرون به عامةً، فإن هذا الأثر يتعاظم ويأخذ مكانه خاصة عندما يكون هؤلاء الأفراد من الفئات المهمشة والأكثر عرضة للانتهاك والمخاطر، مثل الأطفال والنساء والعمال المهاجرين والأشخاص ذوي الإعاقة واللاجئين والسجناء والفقراء.

ومن المعروف أن مرتكبي جرائم الفساد من المتنفذين يقومون بحماية أنفسهم من العدالة بشتى السبل، ويبذلون أقصى جهدهم للاحتفاظ بالقوة التي اكتسبوها، ولتحقيق ذلك يقوم الفاسدون بمزيد من الاضطهاد للأفراد الأكثر عرضة للانتهاك مما يضعف من قدرتهم على الدفاع عن أنفسهم من ناحية، وزيادة تهميشهم والتمييز ضدهم من ناحية ثانية.

إن ضعف هذه الفئات وقابليتهم للعطب هو ما يجعلهم ضحايا سهلة للفساد، حيث ينتهي الأمر بهم إلى دفع الرشاوي، أو ممارسة الجنس بالنسبة إلى النساء، من أجل الحصول على الحماية أو التمتع ببعض المزايا، وفي حالة العمال المهاجرين الذين ليست لديهم إقامات قانونية دفع الرشاوي من أجل عدم ترحيلهم أو من أجل تسريبهم عبر الحدود للدول المتقدمة.

ومن جهة أخرى، لا تغيب الخشية من تحول التدابير الفعالة لمكافحة الفساد إلى ممارسات لانتهاك حقوق الإنسان، ومن ثم يجب على مشرع هذه التدابير ومنفذها التوفيق بين متناقضات حساسة مثل (مثل المصلحة العامة وحقوق وحريات المتهمين؛ والحصول على المعلومات والحق في الخصوصية).

مثال تلك التدابير المتعلقة بعملية اغتيال الشخصية “فهي تستخدم لتدمير مصداقية وسمعة شخص طبيعي أو معنوي، وتستخدم فيها الإشاعات والاتهامات الكاذبة التي تتعلق بأمانته وأخلاقه، كما يستخدم فيها نصف الحقائق والروايات الملفقة وغير المثبتة، وتكال له تهم الفساد المالي والإداري كل ذلك لتصفية الخصم سياسيًا واجتماعيًا في الحياة العامة”.

أو ما كان منها متعلقًا بالقوانين الصادرة بشأن إدارة أموال بعض الأشخاص وممتلكاتهم في ليبيا وخارجها وأبناء الأشخاص “الطبيعية” منهم وأزواجهم، حيث التمادي في الاعتداء بدون حكم قضائي على أموال المشتبه بهم وممتلكاتهم (الحالين والمحتملين)، كما أن المطالبة بتجريم اغتيال الشخصية ومعاقبة كل من يقوم باتهام الشخصيات المحترمة والوطنية بالفساد قد يكون عائقا في سبيل قيام منظمات المجتمع المدني ووسائل الإعلام بدورها كآليات رقابة على الفساد وممارسة النقد البناء.

عمليًا يطلب من المبلغين والشهود أن يقدموا أدلة على صحة ما يدعونه وإلا اتهموا بالتشهير وإزعاج السلطات، وهذه الأدلة قد تستدعي إجراء المواجهة مع المتهم بما يناقض فكرة حماية الشهود والمبلغين التي تستدعي بقاءَهم في الخفاء بعيدًا عن علم المتهم بشخصياتهم.

كما لا يُعد من حسن السياسة الجنائية الحقوقية نصح المشرع الجنائي بالنص على حق الدولة في تتبع المال في أي يد كانت ولو انتقل لذمة غير ذمة الجاني؛ لأنها وإن كانت ناجعة في الحد من الفساد وفي التقليل من مضار المصلحة العامة، لكنها مهددة بالقضاء بعدم الدستورية؛ لأن هذه النصوص تُعد مخالفة لمبدأ شخصية العقوبة.

2.7 السياق الأمني

من المهم تأكيد أن النـزاعات المسلحة، التي تقترن بأسوأ أشكال الإفراط في استعمال السلطة، من أهم السياقات المؤثرة في الفساد؛ ففي ظل الانفلات الأمني وانتشار السلاح خارج سيطرة الدولة تتبين العلاقة الترابطية بين الفساد والعنف حيث يتوسل الفساد بالعنف المادي لممارسته، وقد أُطلق عليه مصطلح “السلوك الافتراسي”، فقد كثرت الوقائع التي تمارسها المليشيات المسلحة بشأن الفساد الاقتصادي، فعلى سبيل التدليل نستشهد بإفادة فريق الخبراء التابع للأمم المتحدة المنشئ بقرار 1973 لعام 2011، في تقريره المؤقت عام سبتمبر 2018 الموجه إلى رئيسة مجلس الأمن بأن المؤسسة الليبية للاستثمار والمؤسسة الوطنية للنفط ومصرف ليبيا المركزي تعد أهدافًا للتهديدات والهجمات من المجموعات المسلحة مما أثر في أداء القطاعين النفطي والمالي في الدولة، حيث قام أعضاء بعض الجماعات المسلحة العاملة اسميًا تحت إشراف وزارة الداخلية بحكومة الوفاق غرب البلاد، باختطاف موظفين وتعذيبهم وقتلهم في مؤسسات سيادية بما فيها الوطنية للنفط والليبية للاستثمار، وقد عبر التقرير عن ذلك بمصطلح “حصة المليشيات في الاقتصاد الموازي”، ونستشهد بإفادة وزير الداخلية عاشور شوايل في حكومة زيدان أبان المؤتمر الوطني بأنه رصد وأوقف كثيرًا من مظاهر الفساد المالي تمارسه اللجنة الأمنية العليا؛ وهذا الأمر يؤكد العلاقة الوطيدة بين قطبي ثنائية الفساد والعنف.

كما أن الجماعات المسلحة التي تنظمت في شبكات إجرامية تجني فوائد كبيرة من الاتجار بالأشخاص وتهريب المهاجرين؛ الأمر الذي يؤجج عدم الاستقرار ويقوض الاقتصاد الرسمي. كما أن عمليات تصدير النفط الخام والمنتجات النفطية المكررة – غير المشروعة بما فيها المرتكبة من المؤسسات الموازية التي لم تكن تعترف بحكومة الوفاق الوطني – تُعد في حكم الفساد المنظم، وينطبق الوصف على تهريب العملات والمخدرات والآثار والمعادن الثمينة.

وفي حين تتطلب عملية محاربة الفساد آليات وأجهزة أمنية قوية لضبط وإيقاف المفسدين الذين نهبوا المال العام، تواجه ليبيا في واقع الحال إشكالية هشاشة الدولة ومؤسساتها، وكلما فكرت في تذويب المليشيات، ازداد تذويب الدولة فيها.

***

جازية شعيتير ـ أستاذ القانون الجنائي بجامعة بنغازي

__________________

مقالات مشابهة

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *