ابراهيم محمد الهنقاري

لم أكن أرغب في التعليق على مذكرات الرائد عبدالسلام جلود التي بدأنا نقرأ بعض فصولها في موقع “ليبيا المستقبل”. فمثل تلك المذكرات لا تستحق لا القراءة ولا التعليق عليها.

ولكن بالنظر لخطورة الحدث الذي شارك فيه ذلك الضابط في بداية أحداث أيلول الاسود وما تبعها. وبسبب ما عرف الناس من بعض الخلافات التي نشبت بينه وبين “الاخ “قائد الثورة” وبسبب هروبه من الوطن بعد أنتفاضة السابع عشر من فبراير 2011 و بسبب تواصل بسيط تم بيننا خلال الفترة الاولى للانقلاب العسكري المشؤوم داخل السجن ثم بعض اللقاءات التي تمت بيننا بعد ذلك في بعض المناسبات الاجتماعية عرفت خلالها شيئا من خصاله المتناقضة فقد رأيت أنه قد يكون من المفيد ومن المناسب أن أكتب هذا الحديث تعليقا عَلى تلك المذكرات التي أسماها “الملحمة”.!!

وإن كنت لا أعرف أن للمذكور أية “ملاحم” تذكر خلال الاحداث الاليمة التي مر بها الوطن منذ تلك الليلة السوداء ليلة الاول من سبتمبر عام 1969.!إلا “ملاحم اللجان الثورية” التي أشرف هو عَلى تشكيلها و توجيهها وما جرى عَلى أيدي زبانيتها من أكل “لحوم” الليبيين والليبيات دون توقف منذ ذلك اليوم الأسود المشؤوم وحتى يوم الناس هذا.!!

كان من نعم الله تعالى علي أنني لم أكن أعرف ولا عرفت فيما بعد إلا قلة من أولئك الضباط الصغار الذين قيل لنا إنهم هم الذين قاموا “بالثورة”.!! بمن فيهم الملازم معمر القذافي الذي لم أعرفه ولم أقابله أبدا والحمد لله على ذلك حمدا كثيرأ.

وان كنت أتحفظ دائما في وصف ماحدث في تلك الليلة المشؤومة بانه ثورة.!!

بداية التعرف عليهم كانت في السجن المركزي في العاصمة طرابلس حيث جمع أولئك الضباط الصغار كل رجالات المملكة الليبية و تعمدوا إهانتهم والنيل منهم ومن كرامتهم بالقول و بالفعل وكنت واحدا منهم. وإن كانوا يواظبون عَلى زيارتهم كل ليلة تقريبا للاستفسار عن كيف تدار الحكومة !!.فهم كانوا يتصورون أن الإدارة الحكومية تتم بوسائل سرية خاصة لا يعرفها عامة الناس.! لم تكن لديهم أية فكرة لا عن القوانين التي تدار بموجبها شؤون الدولة ولا عن اللوائح والقوانين التي تنظم العمل الرسمي العام .!

وإن كان لقائي الاول بالضابط عبدالسلام جلود كان قد تم بطريق الصدفة. ولم أكن أعرفه حينها ولكنه جاء الى وزارة شؤون البترول حينما كنت وكيلا لتلك الوزارة مع اثنين من زملائه بتكليف من رئاسة أركان الجيش لأخذ قائمة بموظفي الوزارة الخاضعين لقانون الخدمة العسكرية الالزامية الذي أصدرته حكومة الرئيس عبدالحميد البكوش عام 1968.

استقبلت الضباط الثلاثة في مكتبي ثم كلفت السيد مدير عام الشؤون الادارية في الوزارة بالتعاون معهم في مهمتهم. ولم تدم تلك المقابلة سوى أقل من نصف ساعة طلب مني خلالها الضابط جلود أن أنقل لظروف عائلية خاصة أحد أقاربه الذي كان يعمل في ميناء رأس لانوف النفطي الى مكاتب الشركة في طرابلس حيث تقيم أسرته التي كانت في حاجة ماسة لخدماته بسبب ظروف خاصة وصعبة كما قال كانت تمر بها. فاتصلت أمامه بالسيد رئيس شركة موبيل أويل التي كانت تدير ذلك الميناء النفطي و أعطيته اسم ذلك الشخص وطلبت منه نقله الى مكاتب الشركة في طرابلس لأسباب و ظروف عائلية خاصةً فتم ذلك في حينه.

أما أول لقاء رسمي بيننا فقد كان في مكتبه في رئاسة مجلس الوزراء. وقد كنت قد التقيته قبل ذلك بيوم واحد في متجر صديق لي في سوق المشير بطرابلس كان أحد أقاربه عضوا فيما كان يسمي “مجلس قيادة الثورة” هو الرائد مختار القروي الذي كان الضابط الوحيد منهم الذي كنت أعرفه ويعرفني قبل انقلاب أيلول الاسود. حيث طلبت من الرائد في ذلك الوقت عبدالسلام جلود خلال ذلك اللقاء مقابلته في مكتبه لأمر يخصني.

فطلب من القدوم الى مكتبه في العاشرة من صباح الغد.

وفي الموعد المحدد وجدت نفسي داخل ذاك المكتب الذي أعرفه جيدا والذي قابلت فيه كل رؤساء الحكومات الليبية من السيد عبدالمجيد كعبار 1959 الى السيد ونيس القذافي 1969 و جميع من تولى هذا المنصب بين الاول و الاخير وعددهم جميعا ثمانية شخصيات بارزة من قادة المملكة الليبية المتحدة و المملكة الليبية وهم الى جانب المذكورين السادة محمد عثمان الصيد و الدكتور محي الدين فكيني و السيد محمود المنتصر و السيد حسين يوسف مازق و السيد عبدالقادر البدرية و الاستاذ عبدالحميد البكوش . طيب الله ثراهم جميعا. وهم قادة ليبيا الكبار الذين لم يعرف الوطن بعد أمثالهم بعد رحيلهم رحمة الله و رضوانه عليهم جميعا.

كان الضابط عبدالسلام جلود يجلس عَلى مكتب رئيس وزراء ليبيا رغم انه كان نائبا لرئيس الحكومة. وبمجرد السلام و الجلوس صرخ في وجهي قائلا : من الذي أحالك عَلى التقاعد.!؟” أجبته في هدوء: أنتم.!!

فقال: لا. لا. أنت ستكون محافظا لغريان.!!وكانت تلك مفاجأة غير سارة ولم أكن أتوقعها.!

قلت له إنني لا أصلح لمثل هذه الوظيفة فأنا لا أفهم شيئا في شؤون القبائل و الحكم المحلي. وحتى قبيلتي في الزاوية لا أعرف منهم إلا بعض أفراد عائلتي.!! ثم إنني لم أطلب هذا اللقاء بحثا عن وظيفة.!!

أنا أريد أن أفتتح مكتبا للاستشارات في شؤون النفط و أطلب التصريح اللازم بذلك من وزارة النفط ومنكم و تسجيل مكتبي هذا في وزارة التخطيط كمكتب استشاري وطني. و ارجو ان تعتبروا مكتبي هذا جزءا من قطاع النفط الليبي.

ودون أن يعلق بشيء وجدته يطلب السيد عزالدين المبروك وزير النفط ويصدر له الاوامر العسكرية بان يصدر قرارا بالاذن لي لافتتاح مكتب استشاري في شؤون البترول وان يطلب من وزارة التخطيط تسجيل هذا المكتب كمكتب استشاري وطني.

شكرته عَلى ذلك و توجهت عَلى الفور الى وزارة النفط للقاء الوزير و الزميل السابق الذي عمل معي مستشارا في الادارة القانونية في الوزارة التي كنت المسؤول الثاني فيها بعد الوزير.

استقبلني الاستاذ عزالدين رحمه الله بحفاوة نادرة واستدعى الوكيل الجديد الصديق والزميل الاستاذ عيسى رمضان القبلاوي الذي سعيت في نقله من وزارة التخطيط ليكون وكيلا مساعدا لي في تلك الوزارة ليشاركنا في الجلسة.

ثم طلب مني الوزير عزالدين المبروك أن.أكتب بنفسي ما أريده.!!

فكتبت مشروع القرار الوزاري بالإذن لي بافتتاح المكتب الاستشاري. كما كتبت صيغة الرسالة الموجهة من وزير النفط الى وزير التخطيط لتسجيل مكتبي الاستشاري كمكتب استشاري وطني في وزارة التخطيط الليبية.

سلمت الورقتين للصديق عبسى القبلاوي الذي أشرف عَلى طباعتهما عَلى الاوراق الرسمية للوزارة. ووقع الوزير الوثيقتين و أعطاني النسخة الأصلية للقرار الوزاري و صورة من الرسالة التي سترسلها الوزارة للسيد وزير التخطيط وذلك لاستعمالهما في استخراج رخصة البلدية لافتتاح المكتب حسب اللوائح المعمول بها حينها.

وهكذا بدأت رحلتي مع العمل الحر بعد رفع الإقامة الجبرية عني ولكنني كنت لا أزال عَلى ثلاثة قوائم من قوائم الممنوعين من السفر. هي قائمة العهد المباد. و قائمة الحزبيين. وقائمة أصحاب الديون

لدى المصارف وهي أهون القوائم الثلاثة.! والعجيب أن القائمة الثانية من الحزبيين هي التي ورثها “النظام الثوري” الجديد من سجلات مباحث “العهد المباد”.!! و بدلا من اعتبار أصحاب تلك القوائم من الوطنيين الاحرار اعتبرتهم “الثورة” من ألد أعدائها.!!

ثم جمعتني بعد ذلك بعض اللقاءات مع الضابط عبدالسلام جلود في. بعض المناسبات الاجتماعية في العاصمة طرابلس وكانت كلها مناسبات عابرة لم نتحدث خلالها عن الشأن الليبي العام.

أردت من هذا السرد أن أبين طبيعة اللقاءات القليلة التي تمت بيننا تمهيدا للتعليق على “ملحمته” ومذكراته حتى يكون لهذا الحديث ما ينبغي أن يكون له من المصداقية.

فأنا لا أتحامل عليه كمواطن ليبي له ماله و عليه ما عليه ثم يكون أمره بعد ذلك الى الله. ولكن حديثي سيكون حول ما أعلم وما يعلم الناس عن انقلاب أيلول الاسود ومن انتسبوا اليه بفتح السين أو انتسبوا اليه بكسر السين و ضم التاء.!

لا يملك القارئ “لملحمة ” الرائد عبدالسلام جلود إلا الاستغراب و إلا الشك في كل ما زعمه إعلام أيلول الاسود عن قصة ذلك الانقلاب وعن الدور الحقيقي لأولئك الضباط الصغار في ذلك الحدث الكبير.!!

لم يحدثنا الضابط عبدالسلام جلود عن ما سمي ” بتنظيم الضباط الوحدويين الاحرار”.!!

لم يحدثنا الضابط عبدالسلام جلود بالتفصيل لا عن دوره ولا عن دور “قائد الثورة” في الاعداد للحدث الكبير الذي غير مجرى التاريخ الليبي الحديث من مجراه الصحيح الى المجرى الأسوأ.!!

لم يحدثنا الضابط عبدالسلام جلود عن الروايات العديدة التي تتحدث عن الدور الغامض لقائد قاعدة

“هويليس ” الامريكية في أحداث الأول من سبتمبر 1969.

لم يحدثنا الضابط عبدالسلام جلود عن ” العبقرية العسكرية ” للملازمين الصغار من ضباط الجيش الليبي الذين تمكنوا في ساعات قليلة من السيطرة على كل مؤسسات ألدولة الليبية الواسعة الاطراف وذات الاجهزة العسكرية و الامنية و المدنية المعقدة و اعتقال كل المسؤولين المدنيين و العسكريين فيها والزج بهم في السجون و المعتقلات و افراغ الجيش و الشرطة من كل الضباط من رتبة رائد فما فوق. !

لم يحدثنا عن حقيقة انقلاب أيلول الاسود لا من قريب ولا من بعيد.

لم يرو لنا شيئًا عن “قصة الثورة”.!!

كل ما جاء حتى الان في فصول “ملحمة جلود ” ليس أكثر من مجموعة من القصص و الروايات عن بعض المكالمات الهاتفية وبعض اللقاءات بينه وبين “الاخ معمر” وعن ذبح خروف في إحداها تيمنا بالزيارة الميمونة للسيد جلود الى خيمة معمر في معسكر باب العزيزية.!!

ملحمة جلود تثبت انه لم تكن له لاهو ولا معمر ولا غيره من صغار الملازمين أية علاقة بما حدث في تلك الليلة السوداء في خريف عام 1969.!!

ملحمة جلود تلقي المزيد من الشكوك حول حقيقة ما جرى في تلك الليلة السوداء ليلة الاثنين الأول من سبتمبر أيلول 1969.!!

ملحمة جلود تثبت أن الغموض لا يزال يكتنف احداث ذلك الانقلاب ومن كان وراءه. !!

ولعل الفصول القادمة من “الملحمة” تكشف المزيد من الذي قراناه في الحلقات الخمس التي نشرت حتى الان.!

وقد يكون لهذا الحديث بقية.!

____________

رأي اليوم

مقالات مشابهة

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *