لا تنمية مستدامة بدون تربية مستدامة

أبوبكر علي النوري

المقدمة

كثير من الأمم بلغت مرحلة متقدمة من النمو الاقتصادي بفضل تبنيها للتنمية الاقتصادية الشاملة، ولكن اكتشفت بعد زمن أن التنمية الاقتصادية تكون قاصرة إن لم تحرز تقدم متزامن في التنمية الاجتماعية والبيئية لأن هناك ارتباط وثيق فيما بينها وبين التنمية الاقتصادية، فالتنمية الاجتماعية والبيئية تدعم الجهود الرامية إلى الحد من الجهل والمرض، والإقلال من الفقر، وإلى تضييق الفوارق الاقتصادية وإلى الحيلولة دون مزيد من التدهور للأراضي والموارد الطبيعية والبيئية، من هنا ظهر أن هناك حاجة إلى طريق جديد للتنمية، طريق يستدام فيه التقدم للأركان الثلاثة للتنمية (الاقتصادية والاجتماعية والبيئية)، وهي الأركان الرئيسة للتنمية المستدامة، والتي تعمل على تلبية احتياجات الحاضر دون أن تؤدي إلى تدمير قدرة الأجيال المقبلة على تلبية احتياجاتها الخاصة.

وقد قبلت فكرة التنمية المستدامة بأوسع معانيها وتم إقرارها على صعيد واسع في مختلف دول العالم و كذلك دعمت من قبل الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها، إلا أن بعض الدول التي تبنت فكرة التنمية المستدامة فشلت في ترجمة هذه الفكرة إلى أهداف وبرامج وسياسات عملية ناجحة، لأن نجاح التنمية المستدامة يتطلب توحيد الجهود وتضحيات مستمرة من كل أفراد المجتمع ومن المؤسسات العامة والخاصة على حداً سواء، وتغييراً جوهريا في السلوكيات والممارسات و بعض العادات والتقاليد الاجتماعية السلبية السائدة بين الناس، لكن هذا التغيير لن يتأتى بسهولة، ولن يتأتى أبدا بدون قيادة مؤسسية قوية وجهود متصلة تحقق التربية المستدامة التي تحتاج إليها التنمية المستدامة، لتبني عالما قابلا للاستدامة لنا ولأجيال المستقبل، فلا بقاء ولا مستقبل لشعب لا يتبنى التنمية المستدامة، ولا تنمية مستدامة بدون تربية مستدامة.

التنمية المستدامة

التنمية المستدامة هي عملية تطوير الأرض والمجتمعات البشرية وكذلك النشاطات الاقتصادية بشرط أن تلبي احتياجات الحاضر في ظل المساواة والعدل الاجتماعي بدون المساس بقدرة الأجيال القادمة على تلبية حاجاتها المستقبلية، مع الأخذ بالإدارة المثلى للموارد الطبيعية بدون الإفراط في استخدامها إلى ما يتجاوز قدرة الأرض والبيئة على التحمل.

ومن بين ما تهدف إليه التنمية المستدامة هو ترسيخ الاستقرار الاجتماعي بضمان الأمن الغذائي وتوفير الغذاء لكل فرد وإتباع أنماط إنتاج واستهلاك متوازنة دون الإفراط في الاعتماد على الموارد الطبيعية، والقضاء على الفقر وتحسين الظروف المعيشية للإنسان ورفع المستوى الاقتصادي له عبر توفير فرص العمل في القطاع العام والخاص و دعم المشاريع الإنتاجية الصغيرة والمتوسطة والعمل على زيادة دخله عن طريق تحسين الإنتاجية، وتأمين إمدادات المياه مع رفع كفاءة استخدامها والمحافظة عليها، وتوفير الرعاية الصحية والوقائية، وتوفير المأوى والخدمات وضمان الاستعمال السليم لها، والحفاظ علي البيئة  وضمان الاستخدام المستدام والأمثل للأراضي والموارد المعدنية والطاقة والغابات والمياه والحياة البرية والأسماك وموارد المياه، والعمل على حماية الأنظمة الايكولوجية والموارد البيولوجية، والأنظمة الداعمة للحياة.

أركان التنمية المستدامة

التنمية المستدامة تتضمن ثلاثة أركان رئيسة هي:

1. التنمية البيئية: حفظ الموارد البيئية والطبيعية بتطبيق للإدارة المثلى لها مع ضمان الاستخدام المستدام لها.
2. التنمية الاقتصادية: رفع النمو الاقتصادي وتحسين نوعية النمو وتوزيع منافعه بعدالة علي الناس كافة.
3. التنمية الاجتماعيـة: من أهم أركان التنمية المستدامة هو التنمية الاجتماعيـة والبشرية التي يكون الإنسان محورها، وتؤدي إلى تحسين مستوى الرعاية الصحية والتعليم والرفاه الاجتماعي للإنسان، فيجب أن يتم نسج التنمية حول الناس وليس الناس حول التنمية (حسب تعبير تقرير التنمية البشرية الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي)، وينبغي أن يكون الرجال والنساء والأطفال محور الاهتمام الرئيسي و أن يتاح لهم المشاركة في اتخاذ القرارات والأعمال التي تؤثر في حياتهم حاضراً ومستقبلاً في ظل التوافق بينهم، ومن بين أهم الأعمال التي يجب أن يشارك فيها الناس:
   • المحافظة على النظافة العامة والتقليص من إنتاج النفايات التي تؤدي إلى تلويث البيئة.
   • الاهتمام بالرعاية الصحية والوقائية العامة.
   • الاستعمال السليم للمرافق والخدمات العامة والمحافظة عليها.
   • الاهتمام بالعمل الجماعي والتطوعي و دعم وغرس روح المبادرة.
   • المحافظة على الأنظمة الحيوية والموارد الطبيعية والحياة البرية والبيئية ونوعيتها مع الاستخدام المستدام والأمثل لها، عبر أتباع أنماط إنتاج واستهلاك متوازنة، والحد من استخدام المبيدات التي تؤدي إلى تلويث البيئة.
   • المساهمة في حماية المناخ من الاحتباس الحراري عبر الحد من تلوث الهواء وانبعاث الغازات و الحد بصورة كبيرة من استخدام المحروقات، واستعمال مصادر أخرى للطاقة أنظف وأكفأ  كالطاقة الشمسية. 
   • المساهمة في الحيلولة دون تدهور طبقة الأوزون الحامية للأرض عبر التوقف عن استعمال المواد الكيميائية المهددة للأوزون.
   • استخدام الأراضي القابلة للزراعة وإمدادات المياه استخداما أكثر كفاءة مع اجتناب الإسراف في استخدام الأسمدة الكيميائية والمبيدات حتى لا تؤدي إلى تلويث المياه السطحية والمياه الجوفية.
   • الحفاظ علي المياه الجوفية و السطحية ولا يتم تلويثها بالنفايات الصناعية والعضوية و استخدامها بكفاءة أكثر ولا يتم ضخها بمعدلات غير مستدامة.

هذه بعض الأعمال التي يستطيع أن يشارك فيها الناس وهي جزء أساسي من نجاح التنمية المستدامة ولكن لا يمكن للإنسان أن يقوم بها دون حصوله علي تعليم كافي وعلي اكتسابه للسلوكيات تساعده علي القيام بهذه الأعمال.

التعليم المستدام

التعليم المستدام أو التعليم من أجل التنمية المستدامة يمكن الدارسين من اكتساب ما يلزم من تقنيات ومهارات وقيم ومعارف لضمان تنمية مستدامة، و يتيسر للجميع الانتفاع بمختلف مستوياته ، ويُعِد مواطنين يتحملون مسؤولياتهم، ويشجع على الديمقراطية وحرية الرأي و يمكن جميع الأفراد والجماعات من التمتع بكل حقوقهم إلى جانب قيامهم بجميع واجباتهم.

محاور التعليم المستدام

المحاور الرئيسية الأربعة للتعليم المستدام أو التعليم من أجل التنمية المستدامة هي:

1. تحسين جودة التعليم الأساسي.
2. العمل على تحقيق فهم أفضل لقضية التنمية المستدامة وعلى توعية الجمهور.
3. تأمين أنواع التدريب اللازمة.
4. إعطاء المناهج التعليمية توجهات جديدة في كل مراحل التعليم (رياض الأطفال، التعليم الأساسي، التعليم الثانوي، التعليم الجامعي) تتضمن في أهدافها وبرامجها ومحتوياتها المفاهيم والمهارات والقيم والأفكار المرتبطة بالتنمية المستدامة في مجالاتها الثلاثة المعروفة؛ البيئية، والاجتماعية، والاقتصادية.

وسيسهم التعليم المستدام أو التعليم من أجل التنمية المستدامة في إعطاء المواطنين الوسائل الكفيلة بتذليل المصاعب الحاضرة والمستقبلة، وأيضا في مساعدة القادة السياسيين على اتخاذ القرارات الجيدة من أجل بناء عالم قابل للاستدامة.

وكان عقد الأمم المتحدة للتعليم من أجل التنمية المستدامة  (2014-2005) الصادر عن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) تتويجاً للتعليم المستدام ويستند اعتماد العقد إلى مثال أعلى هو بناء عالم تتاح فيه لكل شخص فرصة الانتفاع بالتعليم، واكتساب القيم، وأنماط السلوك وأساليب العيش، وكل ما يلزم من أجل بناء مستقبل قابل للاستمرار، وتحويل المجتمعات من أجل تحقيق عالم أفضل، ولكن يبق التعليم المستدام (التعليم من أجل التنمية المستدامة) قاصر بدون تربية مستدامة (التربية من أجل التنمية المستدامة) لأجيال المستقبل، لأنه لا فائدة ترجى من علم بلا تربية أو تربية بدون علم، ولا يمكن الطيران إلا بالجناحين العلم والتربية وإلا فسنبقى مهيضي الجناح.

التربية المستدامة

يبقى التعليم المستدام (التعليم من أجل التنمية المستدامة ) قاصر بدون تربية مستدامة (التربية من أجل التنمية المستدامة) لأن تأثير  بعض الأخلاقيات والسلوكيات والممارسات والعادات والتقاليد الاجتماعية السائدة حالياً بين الناس، يشكل حائلاً دون نجاح التنمية المستدامة، مما يتطلب تغييرا جوهريا لها عبر التربية المستدامة لأجيال المستقبل، لكن هذا التغيير لن يتأتى بسهولة، ولن يتأتى أبدا بدون قيادة مؤسسية قوية وجهود متصلة وتضحيات مستمرة من طرف المؤسسات العامة والخاصة على حداً سواء و من كل أفراد الشعب وخصوصاً الأم. 

فقبل تعريف مفهوم التربية المستدامة، يجب أن نُعرف معني كلمة التربية فلقد عرف اللغويون وأصحاب المعاجم لفظة التربية بأنها: الربّ في الأصل: التربية، وهي إنشاء الشيء حالاً فحالاً إلى حد التمام، ويقال: ربّه و ربّاه و ربّيه، و ربّ الولد ربّاً: وليه وتعهده بما يغذيه وينميه ويؤدبه، لذا يمكننا أن نقول إن التربية هي: عملية بناء الإنسان وتوجيهه، لتكوين شخصيته، فالتربية إذن تعني تنشئة الشخصية وتنميتها حتى تكتمل وتتخذ صفتها المميزة لها، وأهمية التربية تتجلي في أن الإنسان يولد صفحة بيضاء، غير مطبوع عليه أي شيء من ملامح أي اتّجاه أو سلوك، إلا أنه يحمل الاستعداد التام لتلقّي مختلف العلوم والمعارف، وتكوين الشخصية، والانخراط ضمن خط سلوكي معين، لذا جاء في الحديث النبوي الشريف:

[مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ،…]. (رواه البخاري ومسلم)

وهذا ما أثبتته معظم الدراسات التي أجريت بأن الطفل في سنيّ عمره الأولى تتحدد شخصيته الإنسانية، وتُنمى مواهبه الفردية، وتتكون لديه ردود فعل على الظواهر الخارجية، عن طريق احتكاكه بالمحيط الذي يعيش ويترعرع فيه، وتكتمل هذه الردود وتأخذ قالبها الثابت في حينه فمن شبّ على شيء شاب عليه. 

لذا فإن مفهوم التربية المستدامة (التربية من أجل التنمية المستدامة) يشمل نظرة جديدة للتربية تهدف إلى تمكين الأفراد من اكتساب الأخلاقيات والسلوكيات والممارسات الإيجابية  في سن مبكرة تساعد علي نجاح التنمية المستدامة ولخلق مستقبل مستدام ومشرق وسعيد لأجيال المستقبل، ومن بين أهم الأخلاقيات والسلوكيات والممارسات المساعدة مثل:

• احترام المواعيد.
• الصدق في القول.
• التسامح.
• العدل والمساواة.
• الثقة في النفس.
• احترام الآخرين والرأي الأخر.
• غرس روح المواطنة وحب الوطن.
• غرس روح المبادرة.
• تحمل المسؤولية والقيام بالواجبات بإتقان وعلي أحسن صورة.
• النظام والانضباط واحترام القوانين.
• حب العمل الجماعي والعمل التطوعي.
• حب التعلم والقراءة
• الحرص علي المصلحة العامة
• الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
• المحافظة على الموارد الطبيعية والبيئية والحياة البرية
• المحافظة على الصحة والنظافة العامة
• أتباع نمط استهلاك رشيد ومتوازن
• البعد عن اللامبالاة والإتكالية والأنانية
• غض البصر والبعد عن الفضول الزائد ومراقبة الآخرين
• البعد عن التعصب
• وكثير من الأخلاقيات والسلوكيات والممارسات والعادات الإيجابية

وللوصول إلي هذا الهدف وهو اكتساب الأخلاقيات والسلوكيات والممارسات الإيجابية التي تساعد علي نجاح التنمية المستدامة يجب تسخير كل إمكانيات وطاقات المجتمع التي تساعد الأفراد على اكتساب هذه السلوكيات والممارسات ويكون محورها الرئيسي الأم لدورها الأساسي في تربية الأجيال تربية مستدامة.

_______________