عبدالمجيد الصغيّر

المراقب للمشهد السياسي الليبي اليوم يجد أن الأغلبية ممن يتصدرون العمل السياسي لا يهتمون ولا يبذلون أي جهد ذهني في تغذية أفكارهم بالمعرفة السياسية الحقيقية، مما يشكل معضلة أمام الواقع السياسي، وهذا الوصف ينطبق على أغلب الذين تقلدوا المناصب العليا في الدولة، ناهيك عن الألاف من الذين أقحموا في السلك الدبلوماسي.

العمل السياسي هو جهد جماعي يدور في فلك السياسة داخل المجتمع، وهو ليس جهد فرد، مهما كانت صفته، فرد، عنده الأنا مضخمة، لا يتردد في أن يتعامل “من مربوعته أو نجعه أو معسكره” مع مسائل غاية في الأهمية والخطورة  دون أن يدرك ما تسببه من مشاكل ودون كسب أية معرفة بطرق حلها، والدراية بإدارتها.

النموذج الفردي “المنقذ” لا يدرك أنه من الضروري على من يتصدي للعمل السياسي إتقان الوسائل التي تساعد في ممارسة السياسة وتجنب الأسباب المؤدية إلى الأزمات والصراعات، والاستفادة من خبرات الاخرين، والتخطيط لمستقبل أفضل.

لا شك أن ممارسة الدس والتضليل والكذب والدجل والاستذكاء والختل والخداع والتآمر يفرّغ العمل السياسي من مضمونه، ويجعل ممن يمارس السياسة بهذه الاساليب يتحمل مسؤولية الحالة التي وصل اليها الوطن والمواطن، من حيث فقده الثقة في السياسة بل كراهية مفاهيم الوطنية ومبادئ الديمقراطية واليأس من أي عمل منظم.

الازمة السياسية الليبية معقدة ومتشابكة ولها عدة مستويات، بدءً بضحالة الفكر السياسي، ومرورا بفساد الممارسة السياسية، وانتهاءً بغياب المجموعات السياسية الفاعلة، وتهميش العمل الحزبي. فالفكر السياسي، إن وجد، هو انعكاس للأفكار التقليدية ضمن منظومة قبلية بمسميات حزبية، وفساد الممارسة السياسية وصل إلى مستوى غير مسبوق، أما التنظيم الحزبي فهو (في الغالب) أشبه بالقبيلة إلى حد كبير. فزعيم الحزب يتعامل مع السياسة بعقلية شيخ القبيلة بل يستعمل الاساليب القبلية وعلاقات الدم في التجميع والتصعيد.  

المجتمع الليبي مرّ بعشرية سوداء وبتجربة قاسية منذ قيام ثورة الشباب التي أسقطت زعيم القبيلة الأكبر وإبليس الأمة الليبية، وذلك ما تمناه كل من رفع شعار “إبليس ولا إدريس”. ولكن النخبة السياسية لم تدرك بأنها كانت أمام اختبار مستفزّ في لحظة تاريخية فارقة، حيت كشفت الأحداث أن النخبة لم تحافظ على ما أنجزه الجيل المؤسس للدولة الليبية من معارف وبنى تحتية وقيم وطنية، والتي ظلت مقهورة ومكبوتة طوال أربعة عقود، ورغم ذلك فقد ترك لنا الأجداد نموذج “رجل الدولة” الذي استطاع أن يصل إلى مستوى سياسي ناضج يحركه الوعي والإنضباط والتحمل والعطاء.

لقد فشلت العملية السياسية وأُفسدت الحياة السياسية برمتها، لعدة أسباب، ولعل أحد الأسباب مرتبط بعدم تشكل مجتمع مدني سياسي (طوال سنين الجمر) ولم يكن في الامكان استكمال ما بدأه جيل تأسيس الدولة، ووبالتالي لم يكن من الممكن توفر حد معقول من الفاعلية السياسية يمكنها مقاومة “الثورة المضادة” و “الدولة العميقة“، بالتالي تم إختراق الحياة السياسية وإفسادها. فما حدث هو عملية تفريغ المجتمع من الفعل النضالي الحقيقي، فلا مجتمع مدني حركي، ولا مبادرات نخبوية جرئية للتخفيف من حدة الأزمات، ولا رؤى فكرية ناضجة ومساهمات أكاديمية جادة مستقلة، كان من الممكن توظيفها في مرحلة التحول الديمقراطي وإعادة بناء الدولة الليبية.  

لعل من أهم اسباب إخفاق التحول الديمقراطي، عزلة المجتمع عن الدولة وبالتالي عدم إفساح المجال للفاعلين الاجتماعيين والقوى الحية التي تعبّر عن نبض المجتمع، للمشاركة في تحمل المسؤولية. ومن ثم تشكّل نموذج الفاعل السياسي الذي يعتبر خيرات الدولة غنيمة خاصة به.

***

هناك تشابه كبير بين النظام القبلي (في البادية) والكتائبي (في المدن) حيث تتركز القوة السياسية بيد مشيخة القبائل أو أمراء الكتائب، وذلك عبر احتكار أدوات القسر والقهر، واحتكار توزيع الثروة والمناصب، والإعفاء من المراقبة والمساءلة. وهذا يبدو واضحا في تتبع مهزلة توزيع المناصب العليا في أهم المؤسسات، خصوصاً تلك التي تسمى بالسيادية، بل هو أكثر وضوحا في ظهور كادر بيروقراطي من أنصاف المتعلمين المقربين من المشيخة القبلية والكتائبية، بالإضافة لجنرالات العسكر.

برزت في السنوات الأخيرة ظاهرة البداوة المقنعة التي تتباهى بتحضرها الشكلي، فنماذجها تسكن وتعمل في المدينة، وتتناول مرطباتها (البريوش مثلا) ، مع الحفاظ على العقلية الريفية والقيم والاعراف والعصبيات والسلوكيات البدوية، وقد أصبح الولاء والانتماء إلى القبيلة والكتيبة والمنطقة، بدلا من الولاء للوطن والأمة والدولة الواحدة.

ليس سهلا “في منطق السياسة” انتقال المجتمع البدوي بقيمه وتقاليده وأعرافه وعصبياته الى المجتمع الحضري دون المرور بفترة انتقالية يتم فيها تفكيك تلك القيم والأعراف. فالإنتقال سياسيا من التبدي إلى التمدن، يحتاج الى توفر ظروف وشروط اجتماعية واقتصادية وثقافية تساعد على التأقلم والانسجام والتحضر، وفي مقدمتها تحويل الولاء والانتماء من القبيلة الى الدولة ومن المنطقة إلى الوطن ومن ثم الخضوع الى سلطة القانون ودولة المؤسسات وليس الى القيم والاعراف القبلية وعلاقات الدم والجينات.

نجاح انتقال هذا النموذج من فرد قبلي أو مجند كتائبي إلى مواطن سياسي مدني (بمعنى الدولة المدنية وليست دولة مدينة ما) ينعكس على البنى الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية وبخاصة في العلاقات العائلية والتعليمية والمهنية، التي تتأثر بدورها بطرائق التفكير والعمل والسلوك، ويعني ذلك ضرورة حدوث تغيّر وتبدّل وتحوّل في نمط الحياة والسلوك والعلاقات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية.

لقد اصبحت القيم والاعراف والعصبيات العشائرية تحاصر المدن اليوم من داخلها وجميع جوانبها وتتداخل مع قيمها وثقافتها وتضغط بكثافة عصبياتها على البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية فيها عن طريق العشائر والعوائل والقبائل (الشريفة وغيرالشريفة!!) وتهجم بكثافتها وتخترق المؤسسات السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية وتنتهز اية فرصة للتسلق الى قممها وتتحول الى قوة ضاربة تضعف الدولة التي لم تكتمل وتنضج، وأدت هذه الظاهرة إلى تفكك الحياة السياسية، بعد ان عجزت عن تأسيس الدولة المدنية وسيادة القانون وتوفير هامش من الحرية واحترام الرأي والرأي الآخر.

البداوة السياسية والفكرية مشكلة يجب التحرر منها، ونقمة على الحياة السياسية يجب الابتعاد عنها، والدولة المدنية هي الحل لكثير من المشكلات الناتجة من البداوة، ولكن هناك مسافة نفسية وزمنية ما بين مرحلة البداوة والتحضر، وقد عرفت الدول الكبرى بأن الحل يكمن في نقل المدنية وخدماتها إلى البادية، وليس العكس، فالإنسان البدوي يجب أن يتحضر ويتمدن وهو فى البادية، وقبل أن ينتقل إلى المدينة بعقلية وثقافة البادية.

من حسنات النظام الملكي الكثيرة في الستينيات والسبعينيات، وضع بعض الكليات حصريا في جامعة بنغازي، وأخرى في جامعة طرابلس، مما اضطر أعداد كبيرة من الطلاب من بادية وقرى برقة للدراسة والعيش في مدينة طرابلس، وفي المقابل توجه طلاب من بادية وقرى المنطقة الغربية للدراسة والعيش في مدينة بنغازي. وللقارئ أن يستنتج حزمة الفوائد التي نتجت عن هذه السياسة ومن بينها تعرف وتأقلم طلاب الجامعتين من الريف والبادية بالمدينة التي سكنوها وعاشروا أهلها وتعرفوا على شئ من ثقافتها خلال سنوات الدراسة الجامعية.

والموضوع في حاجة للمزيد من التفكير بصوت عال وقلم جريئ…

________________

مقالات مشابهة

3 CommentsLeave a comment

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *