معن البياري
هناك، في فندقٍ أنيس (أو مؤنس؟) في فاس، قبل 30 عاما، كنّا مدعوين ومُستضافين في مؤتمرٍ لا أتذكّر موضوعه، وإنْ أرجّح إنه عن تحدّياتٍ كانت تحيق بالأمة، نظّمه المجلس القومي للثقافة العربية (منحلّ حاليا، ليبي التمويل، مقرّه الرباط).
لا أنسى ممن شاركوا فيه، بأوراقٍ ومداخلاتٍ أو بدونهما، الراحلين كامل زهيري وأحمد إبراهيم الفقيه وناجي علوش وجورج طرابيشي وفهد الفانك (و..)، وممن أدعو لهم بطول العُمر يحيى يخلف وكمال عبد اللطيف ومبارك ربيع وعبد السلام بنعبد العالي (و..). أتى إلى بالي بتلك الأيام الأربعة البعيدة (كنتُ صحافيا بين الجميع)، نبأ وفاة الكاتب الليبي، علي المصراتي، الأسبوع الماضي، عن 95 عاما.
لا أعدّه واحدا ممن شاركوا في ذلك الجمع والمؤتمر فحسب، وإنما أيضا شخصيةً بديعةً، نادرة القماشة، فيه. كان في منتصف ستينيّاته (كنتُ في أخريات عشرينياتي). فائض الظرافة وخفّة الظل والدعابة فيه، وكذا اللباقة والنباهة والرّقي، يجعلك تنشدّ إلى أحاديثه وسخرياته، حيث الحسّ العالي بالفكاهة، والمزاج المطبوع بالمرح، مقترنان في كلامه بثقافةٍ وفطنةٍ ومعرفة. ولا أظنّها ستُغادرني يوما تلك القفشات والمزحيات التي كان يتبادلها مع عُمدة الساخرين في الصحافة المصرية، كامل زهيري (توفي في 2008)، وكان أيضا في منتصف ستينيّاته، وقد أشاعا فينا، نحن حواليهما وبينهما هناك، انبساطا وانشراحا غزيريْن.
أصاب من قال إنك لا تستطيع أن تعرف أي شيءٍ عن ليبيا من دون أن تمرّ على كتب علي المصراتي. وهذه الكتب، وهي نحو ثلاثين، تتعلق، في غالبها، بالتاريخ الثقافي والسياسي والاجتماعي في ليبيا، منها ما هو مرجعي عن الأمثال الشعبية في بلاده (أحدها “جحا في ليبيا” صدر في 1958)، وكذا عن الصحافة (“صحافة ليبيا في نصف قرن”، 1960، مثلا). وله “الصلات التاريخية والاجتماعية بين تركيا وليبيا” (1968).
ولمّا كنتُ قد صادفتُ له كتابه “كفاح صحفي ..” (1961)، وهو عن صحافي تونسي المنبت والمنشأ (شيخ زيتوني)، لقبه أبو قشّة، واسمُه الهاشمي المكّي (توفي في 1942)، أقام في ليبيا وأصدر صحيفته “طرابلس”، ثم ارتحل إلى إندونيسيا، وأصدر فيها صحيفةً عربية، وتوفي هناك، أقول لمّا قرأت هذا الكتاب النادر، غشيني حرجٌ مما أنا عليه (كما كثيرين من قماشتي) من جهلٍ بتلك التجربة الصحافية التي توازت مع مثيلاتٍ لها في ليبيا، سيما وأن “أبو قشّة”، على ما قرأتُ له وعنه، كان انتقاديا ساخرا شجاعا، وأعطى صحيفته صفتها أنها “كشكولية، هزلية، حسّاسة الشعور، ..”. ويُخبرنا المصراتي بأنها، إلى صحفٍ أخرى أصدرها مواطنون ليبيون، “لعبت دورا هاما في تنمية الوعي واليقظة”.
أما وأن عنوان المقالة اشتمل على اعتذار إلى الراحل علي المصراتي، فذلك لتقصيرٍ فادح، أجده لا يخصّني وحدي، بل نزاوله منذ عقود، نحن ناس الإعلام والكتابة في غير بلدٍ عربي، بشأن معرفة ليبيا، أعلامها من أهل الأدب والصحافة والفنون، فلكلورها وثقافتها الشعبية، ومحطّات من تاريخها، وكذا إبداعات نخبها.
أراني هنا، وإنْ طالعتُ رواياتٍ وقصصا للعزيز الراحل، أحمد إبراهيم الفقيه (وغيره)، وإنْ شاهدت مسرحية ليبية يتيمة (في الرباط)، وإن سمعتُ المالوف الليبي في الدوحة، وإن …، أراني أجهر بجهلٍ مديدٍ فيّ بليبيا، إبداعاتٍ ثقافيةً وفنيةً، التي غيّبتها عنّا عقود الاستبداد والسفاهة القذّافية. وكان الظن أن بلد عمر المختار سيعبُر، بعد خلع الدكتاتور المهرّج، إلى انتقالةٍ، تضيئه لنا بثقافته وتاريخه وإبداعات ناسه وقصائد شعرائه وروايات كتّابه وقصصهم ورسوم فنانيه، غير أن الذي شاهدنا وما زلنا نشاهد لا ييسّر هذا، وإنْ بات في الوسع، بفضل الرقميات والإنترنت، أن نعرف وأن نتعرّف.
واصل علي المصراتي، الإسكندري المولد والقاهري اليفاعة، في أزمنة القذافي، ما كان قد انكبّ عليه من درسٍ وبحثٍ وتأليف، وكتابة القصص، فصار “عقّاد ليبيا”، على ما وصفوه، ومن عناقيد ذاكرة ليبيا الثقافية. كان نائبا منتخبا معارضا في بلده، في 1960، وحزبيا في “المؤتمر الوطني” قبل هذا، واعتقل ثلاث مرّات، وتاليا صار مدير الإذاعة، رئيس تحرير مجلة، أمينا عاما لاتحاد الأدباء. وعلى ما ذكر أستاذ جامعي ليبي، كان الراحل صاحب مشروعٍ ثقافيٍّ وطني، ومهجوسا بالهوية الثقافية لبلده.
يستحقّ اعتذارا معلنا، منا نحن الذين لم نعرفه جيدا، ولم نعرف عن بلده ما يلزم أن نعرف. .. أراني أُنصِت إليه، ويسري فيّ انشراحٌ مما أسمع، قبل ثلاثين عاما في فاس.
____________