السياسة المفرقة جامعة تتلمذ فيها المصراتي ولنقي وبن حليم والوطن الواحد مدرسة الاختلاف بينهم

أحمد الفيتوري 

عجائب الأقدار مشترك الأعمار، ما كان بين ثلاثي ليبي فريد، جمع بينهم الزمان، ما يقال عنه مفرق الأحباب، كما جمعهم المكان: ليبيا، الوطن الشائك الدروب. من حيث الزمان: ولدوا في بلاد، وقت احتلها أوروبيون فاشيون: إيطاليا أكتوبر (تشرين الأول) 1911، مما اضطر جمعاً من آل البلاد إلى الهجرة، وولدوا عقب حرب أوروبية كبرى أولى، كانت بلادهم إحدى ساحاتها، كما كانت في الثانية!

كان ميلادهم في العقد الثالث من القرن العشرين، فيما رحيلهم ختام عام 2021، وبلدهم قد غاص في أتون حرب أهلية! وأما في باب المكان، فقد جمع بين اثنين منهم المهجر، فولدا في الإسكندرية ودرسا في مصر، فيما ثالثهما ولد في بنغازي.

– مصطفى بن حليم: (الإسكندرية 29 يناير “كانون الثاني” 1921 – الإمارات 7 ديسمبر “كانون الأول” 2021).

– علي مصطفى المصراتي: (الإسكندرية 18 أغسطس 1926 – طرابلس 29 ديسمبر 2021).

– عبد المولى لنقي: (بنغازي 1930 – بنغازي 2 يناير 2022).

الأول من أصبح مهندساً، اشتغل بالإسكندرية، أمسى رئيساً للوزراء، الثاني من درس بالأزهر، غدا نائباً معارضاً بمجلس النواب، أما الثالث فبدأ معارضاً بحزب “جمعية عمر المختار”، فبات وزيراً بالحكومة.

المصراتي … نهج التسامح

الكاتب على مصطفى المصراتي كرس عمره المديد للفكر العقلاني، وللإنتاج في الآداب والتاريخ، ونهج لذلك التسامح، فاتخذ السخرية أسلوباً، وقد مثل جهده الاستنارة الليبية، والمكابدة من دون كلل ولا ملل، ولا ادعاء أو تملق، ولا تبرم، على الرغم من شح الزاد وطول الطريق.

إن هذا الجهد المسكون بالعقلانية: (لكن الأرض تدور)، جعل منه، هو أحد تلاميذ الأزهر، أحد التنويريين في الثقافة الإنسانية، وقد كرس العمر لذلك. وقرن هذا الشغل الذهني بالعمل الدؤوب لأجل قيم التنوير العقلانية التي تتسم بالفهم المتبادل وبالانفتاح على الثقافات الأخرى وحق الاختلاف لأجل اتجاه للتسامح، يعترف بتعقد القضايا المعاصرة، مما يستلزم تناولاً معقداً ودقيقاً لحلها.

ولأجل ذلك وبحق، أسهم في وضع اللبنة الأولى في ليبيا لقيم التسامح، فكان معلم التسامح، ما هو أكثر من (القبول بالغير)، إنه الاعتراف بالحق في الاختلاف، بل قبول الحق في الخطأ، كحق من حقوق الإنسان. ذلك أن الخطأ لازم من لزوم البحث عن الحقيقة، وأن كل شيء نسبي، أو كما يقال في عبارة بسيطة، بأن مفهوم التسامح يعني أن تحيا أنت والآخرون.

 

وكان علي مصطفى المصراتي، الداعي لذلك بالحكمة والسُبل الحسنة. إذ التسامح لم يكن يعني عنده اللامبالاة، بل يعني البحث عن الأفضل، أو كما قال الباحث السويسري: أندريه مرسييه “أن ممارسة التسامح تُفضي بالضرورة إلى استبعاد الادعاء بامتلاك (الحقيقة) الوحيدة، أي (الأيديولوجيا)، إن العدالة الفلسفية تستلزم إتاحة الحرية الكاملة لكل مواطن في مقارنة الآراء، التي تنشأ عنها التقاليد والعادات الموروثة، بغض النظر عن الأيديولوجيا، وإني أوثر أن أطلق على العدالة الفلسفية الحق في التفلسف”.

ومن هذا توجه إلى العمل الثقافي وكرس نفسه من أجل تنوير العقل والنفس بالمعرفة والمجتمع بالوعي، وكان ديدنه في ذلك التسامح، حديقة التباين، والتباين ضروري، حتى يمكن للهوية أن تكون: أول معنى للوجود، وهو أي التباين ضروري، ومسهم في انفتاح الآخرين.

وكان ويبقى عمله ونظرته أن للثقافة بيتاً من دون أي إحساس بالانعزال، (حيث المعزول يفرز مأساته، فهو يكرر في حياته هذا العزل والتجزئة والانقسام)، بل الثقافة المنفتحة على نفسها وفي نفسها، والمنفتحة من دون شروط على الآخرين، أي من دون مصادرة على المطلوب، فالتسامح حق الاختلاف للنفس وقبول للآخر.

لنقي … كتاب ليبيا

حمل على كاهله ما يحب، وأحب أن يجعل الكتاب حبه الأول والأخير، حبيب الناس كافة. للكتاب ضرة تزوجها عن حب جارف: “ليبيا”، أسطورته الأولى والأخيرة، إن أردت أن ترى المقاتل فيه استفزه بالطعن في المعرفة وأظهر جهلك بـ “ليبيا”.

في ما يخص الكتاب، منذ مقتبل العمر منح جدوى العمر له، أينما ثمة كتاب هو، أينما ثمة ما يخص ليبيا من كتب يكرس الوقت والجهد والمال، لم يعرف كصاحب دار نشر أو مكتبة، أن يعني هذا مشروع تجاري كما رفيقه في النضال والكتاب: الكاتب والناشر علي مصطفى المصراتي، وكذا الحال في ما يخص البلاد. يتكلم بحواس خمس وهو يؤكد أن مدينته بنغازي حاملة وحدة ليبيا، وأن ليبيا بنغازي الكبيرة منذ الخمسينيات تجسد عشقه هذا في “دار ليبيا للنشر”.

أول مرة دخلت بيته رفقة الراحل إدريس المسماري والشاعر فرج العربي كنا جزءاً من “لجنة ديوان الشعر الليبي”، ما لم تنه مهمتها، كما كثير من مشاريع الثقافة الليبية.

قلت دخلت بيته فوجدت مقامه ومضيفته تعج بـ “خرائط ليبيا”، العديد منها جمعها في ترحاله، بعض الخرائط أصلية كان يُطاردها في مزادات الكتب والخرائط وفي الأسواق القديمة وعند الباعة المتجولين، حيث سافر وكان.

عبدالمولى لنقي لا يختزله كلام، ديدنه فعل، عمل دؤوب، وشغف بما فاعل، والنائي بالنفس عن كل شائبة تمس البلاد.

جعل من مكتبته “قورينا” في شارع عمر المختار ببنغازي مكتبة الليبيين، حيث يلتئم كل يوم جمع منهم، ولا يدخلها أحد، إلا عاد غانماً بكتاب وأكثر، هدية خاصة، إذا ما كان السائل عن كتب، تخص معشوقته الأولى والأخيرة “ليبيا”.

بن حليم … درس المذكرات

رجل ومرحلة تأسيس دولة. ما يلخصه كتاب “صفحات مطوية من تاريخ ليبيا السياسي مذكرات رئيس وزراء ليبيا الأسبق مصطفى أحمد بن حليم”، الصادر في طبعة يتيمة عام 1992. ما يثير أهم الثوابت في نشأة الدولة الليبية، إذ إن “بن حليم” هو رئيس الوزراء الثالث، وكانت حكومته في الفترة من أبريل (نيسان) 1954 إلى منتصف 1957، وكتابه سفر المعضلات البنيوية التي شكلت كيان الدولة، ما واجهت حكومة بن حليم وآخرين.

وفي الختام، فإن في البدء كانت مفارقات الأقدار، تشابه في الأعمار، وأن يكون المختبر واحداً، فيما تتنوع التجربة، فالسياسة المفرقة جامعة تتلمذ فيها ثلاثتهما والوطن الواحد، مدرسة الاختلاف بينهم.

هكذا الزمان كما المكان جعل منهم المنشغلين في الحياة بمشغل الحياة، بالشغل وبليبيا في آن، منذ مقتبل الشباب حتى الرمق الأخير من الشيخوخة.

كانت الطريقة والطريق واحد: لتحيا لا بد من الكد والمكابدة، شعارهم فعلهم: تعيش الحياة لأن أجمل ما في الحياة أن أوهامنا معنا، أو كما قال الشاعر مفتاح العماري.

___________

مقالات مشابهة

1 CommentLeave a comment

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *