القارة السمراء تشهد عشرات التدخلات العسكرية في العقد الأخير فماذا تغير؟

في سنة 1980 كان العسكريون يحكمون 43 دولة إفريقية.

ثم تقلص العدد إلى 9 دول فقط عام 2001.

الآن في نهايات 2021 هناك 18 رئيساً ينتمون إلى الجيوش الإفريقية، أو حركات التمرد المسلحة التي ساعدتهم في الوصول للحكم، من أصل 54 دولة بالقارة.

هناك أكثر من 100 انقلاب ناجح في إفريقيا في العقود الأربعة الماضية.

وقعت انقلابات في سبع دول إفريقية على الأقل خلال عقد واحد، فانتكست المحاولات الديمقراطية.

وفي تعليقه أمام مجلس الأمن الدولي، على الوضع بالسودان، ذهب أمين عام الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إلى الدعوة لضرورة إيجاد “رادع فعال لوباء الانقلابات” التي تشهدها إفريقيا.

هناك قارة لم تغادر دوامة الانقلابات بعد مرور ستة عقود على استقلالها، مما يطرح سؤالاً حول أسباب تكرار الظاهرة وتأثيرها على استقرار دول المنطقة الهش. 

البلد الإفريقي الذي جرت فيه محاولات انقلابية أكثر من غيره، هو السودان، الذي وصل عدد محاولات الانقلاب فيه منذ الاستقلال إلى 15 محاولة، نجحت منها 5 محاولات.

تنجح معظم الانقلابات في إفريقيا لأنها تستغل ضعف وفساد السلطة القائمة، وما دام الأمر خروجاً على القانون فإن الذي يملك السلاح يجد نفسه أولى بالسلطة وخيراتها، فيجازف بالانقلاب حتى رغم إدانة لندن وباريس وواشنطن؛ العراب الأصلي للانقلابات.

لكن السنوات الجديدة أفرزت عراباً آخر، هو فشل الربيع العربي واستسلامه للانقلابات في بعض تجاربه، وتراخي المجتمع الدولي إزاء الجنرالات الذين يقفزون على السلطة بالدبابة. 

الربيع العربي ألهم الشعوب الإفريقية الخروج إلى ميادين الحرية ضد الطغاة والفاسدين.

وانكسار الربيع العربي تحت ضربات الثورة المضادة ألهم جنرالات القارة السمراء فكرة الاستيلاء على السلطة، وإعادة الحالمين إلى زنازين الخوف والصمت.

إفريقيا هي أرض الانقلابات منذ سنوات الاستقلال منتصف القرن الماضي، وسجل عشرات الضباط في تاريخها مغامرات دموية لمصادرة السلطة والثروة والحرية. 

لكن الموجة الأخيرة من الانقلابات تختلف عن سابقاتها في السياقات المحلية والدولية، وأبرز المؤثرات كان صعود وانهيار الربيع العربي، على أيدي مهندسي الثورة المضادة والانقلابات.

تصاعدت موجة الانقلابات في إفريقيا، وأثر الربيع العربي عليها هو موضوع هذا التقرير.

***

في كوكب الجنرالات

سجل قياسي لإفريقيا في الانقلابات العسكرية منذ الاستقلال لأسباب معظمها موروث من الاستعمار

منذ تأسيس الجمهوريات الإفريقية، واستقلالها عن المستعمرات الأوروبية، في خمسينيات القرن الماضي، شهدت أكثر من 200 انقلاب، نجح ما يقارب نصفها وفشل الباقي. 

ولسنوات ظل معدل الانقلابات في إفريقيا 4 على الأقل كل عام، وانخفض عام 2019، ليقتصر على محاولتين فقط. ثم ارتفع العدد إلى 6 انقلابات في 2021.

القارة الغنية بموارد طبيعية ضخمة تحتاجها الصناعات الثقيلة في أوروبا والصين والولايات المتحدة وآسيا، لا تمنح أبناءها هامشاً من هذه الثروات، ولا تتركهم ينعمون بأي نوع من الاستقرار الأمني أو السياسي أو الاقتصادي.

أكثر من 55% من الإفريقيين تحت خط الفقر.

وشهدت دول مثل السودان وسيراليون وليبيريا ورواندا ومالي حروباً ونزاعات أهلية استمرت عشرات السنوات، وراح ضحيتها أكثر من 13 مليون قتيل وشرد بسببها نحو 33 مليوناً. 

وهكذا، فإن ضعف الاقتصادات الإفريقية والبيئة الأمنية المضطربة، إضافة إلى عدم احترام المواثيق الديمقراطية ولجوء العديد من الحكام المدنيين لتمديد فترات حكمهم، جميعها عوامل تثير الغضب الشعبي وتهيئ بيئة الانقلابات العسكرية التي تزيد الأمر تعقيداً.

الانقلابات غالباً ما تكون مدعومة من الخارج

في السابق كان الطموح في الحكم والجاه وربما الثروة، هو ما يقود العسكر للانقلاب.

ولعل العامل الخارجي أصبح حافزاً مهماً في توجه الجيوش الإفريقية الجديد، مما يشجعها على القيام بالانقلابات لأسباب لا علاقة لواقع الشعوب بها على مستوى الشعارات والهتافات. 

“اشتباك مصالح القوى الكبرى” مع دول بعينها أصبح هو المحرك الأساسي للانقلابات العسكرية بدول القارة السمراء، بالنسبة لكثير من المحللين.

هذه الانقلابات تعكس مرحلة جديدة من تسارع وتيرة الصراعات الخفية بين القوى الغربية التقليدية والجديدة على القارة.

إفريقيا التي “ستكون قلب اقتصاد العالم” في غضون العقدين القادمين. 

الكثير من الانقلابات التي وقعت بإفريقيا كانت مدعومة من جهات غربية سياسية أو من مؤسسات اقتصادية هي في الغالب عبارة عن شركات متعددة الجنسيات تحاول السيطرة على ثروات القارة.

وصراع الدول الكبرى الفاعلة على ثروات إفريقيا أصبح بين الأسباب الحاسمة لتدبير انقلاب إفريقي.

وتغيرت المبررات التي كان يرددها قادة الانقلابات.

كانوا يزعمون انحيازهم للمستضعفين والرغبة في رفع المعاناة التي تسببت فيها الحكومة السابقة.

الآن تُقدم الجيوش نفسها على أنها رائدة الإصلاح.

والحريصة على السيادة الوطنية والأمينة على الشعوب ومقدراتها.

والحامية لحدودها.

تتكرر هذه المعاني في خطب زعماء الانقلاب، وفي الأغاني الوطنية الرسمية، مما يُطرب قطاعات واسعة من المواطنين الباحثين عن الأمن والاستقرار. 

كيف نعرف أن ما يحدث انقلاب؟

أحد التعريفات المستخدمة للانقلاب هو أنه محاولة غير قانونية وعلنية من قبل الجيش -أو غيره من المسؤولين المدنيين- لعزل قادة بلد من مناصبهم.

وحددت دراسة أجراها الباحثان الأمريكيان، جوناثان باول وكلايتون ثين، أن أكثر من 200 محاولة من هذا القبيل نفذت في إفريقيا منذ أواخر خمسينيات القرن الماضي.

أشارت الدراسة إلى أن حوالي نصف هذه الحالات كانت ناجحة، أي أنها استمرت لأكثر من سبعة أيام.

وكانت بوركينا فاسو، الواقعة في غرب إفريقيا، هي الدولة التي شهدت أكبر عدد من الانقلابات الناجحة، حيث فشل انقلاب واحد فقط من بين سبعة محاولات.

وفي بعض الأحيان، ينكر المشاركون في مثل هذا التدخل أن ما يقومون به هو انقلاب.

ففي عام 2017، أدى الانقلاب العسكري في زيمبابوي إلى إنهاء حكم الرئيس، روبرت موغابي، الذي استمر 37 عاماً.

وظهر القائد العسكري، سيبوسيسو مويو، أحد قادة العملية، على شاشة التلفاز في ذلك الوقت، نافياً بشكل قاطع استيلاء الجيش على السلطة.

وفي أبريل/نيسان من هذا العام، وبعد وفاة الزعيم التشادي، إدريس ديبي، نصب الجيش ابنه رئيساً مؤقتاً للبلاد يقود مجلساً عسكرياً انتقالياً. وقد أطلق خصومهم اسم “انقلاب الأسرة الحاكمة” على ما حدث.

وينكر قادة الانقلاب بشكل شبه دائم أن عملهم كان انقلاباً في محاولة لجعله شرعياً.

الانقلاب هو تغيير نظام الحكم، أما الطريقة أو الأداة التي تستخدم في هذا التغيير فهي في أغلب الحالات هي القوات المسلحة. وهناك أدوات أخرى في نظرية الانقلابات، منها الغزو الأجنبي، ومنها استخدام المرتزقة، ومنها انقلاب القصر، لكن تغيير النظام في 70% من الانقلابات كان يتم باستخدام الجيش.

انتفاضات شعبية قد تُفضي إلى انقلابات

في العقود الأربعة بين عامي 1960 و2000، ظل العدد الإجمالي لمحاولات الانقلاب في إفريقيا ثابتاً بشكل ملحوظ بمتوسط بلغ حوالي أربع محاولات سنوياً.

ومنذ ذلك الحين، أي في العقدين منذ 2000 وحتى 2019، انخفض ذلك إلى حوالي محاولتين كل عام.

ويقول جوناثان باول إن هذا ليس مفاجئاً بالنظر إلى عدم الاستقرار الذي شهدته البلدان الإفريقية في السنوات التي أعقبت الاستقلال.

ويضيف: “البلدان الإفريقية لديها ظروف مشتركة للانقلابات، مثل الفقر وسوء الأداء الاقتصادي. وعندما يشهد بلد ما انقلاباً، فإن هذا غالباً ما يكون نذيراً لمزيد من الانقلابات”.

يقول إندوبويسي كريستيان أني، من جامعة كوازولو ناتال، إن الانتفاضات الشعبية ضد الحكام المستبدين الذين خدموا لفترة طويلة وفرت فرصة لعودة الانقلابات في إفريقيا.

ويضيف: “في حين أن الانتفاضات الشعبية شرعية ويقودها الناس، إلا أن نجاحها غالباً ما يتحدد بقرار الجيش”.

هكذا زرع الميراث الاستعماري فكرة الانقلاب العسكري

نقطة البداية البسيطة لأسباب وكيفية تدخل الجيوش الإفريقية بشكل معتاد في المسائل الاقتصادية والسياسية تكمن في التاريخ الاستعماري للقارة. 

خلال الحقبة الاستعمارية كانت الجيوش أداة لتحقيق هيمنة القوى الاستعمارية؛ حيث استُخْدِمَتْ كأداة في ديناميات “السياسة الداخلية” في كل المستعمرات.

لذلك غرست التجربة الاستعمارية ثقافة عسكرية تؤمن بحق التدخل في السياسة، وهو ما يتعارض مع المعايير الديمقراطية التي تؤكد على حيادية ومهنية الجيوش. 

الجيوش الإفريقية تأسست على مخلفات الجيوش الاستعمارية، وورثت بذور التحيز العرقي التي زرعها المستعمرون. 

في العادة، شكلت الأقليات العرقية الجزء الأكبر من القوات المسلحة الاستعمارية من أجل موازنة العرقيات الأقوى تاريخياً.

وبالنظر إلى ضعف وهشاشة الدولة الإفريقية في مرحلة ما بعد الاستقلال، وفشلها في تحقيق أحلام شعوبيها في التحديث والتنمية، قد يشعر الجيش بضرورة التدخل باعتباره حامي حمى الديار والقَيِّم على البلاد والعباد.

ارتباط هذه الانقلابات بإفريقيا ناتج عن ارتباط النخب العسكرية فيها بالخارج، من خلال العمل مع الدول المستعمرة أو من خلال فترة استغلال وجود عملاء داخل الدول الإفريقية لهم ارتباطات خارجية، وبالتالي، تكون هذه النخب تحت التأثير الخارجي.

كما أن الاستعمار أسّس في كل بلد بنية ذات طبيعة عسكرية، يحكمها الاحتلال بالسلاح والقمع، ويصبح الآخر الإفريقي خاضعاً.

بمعنى أن تكون الكلمة للقوة العسكرية، لأن الإرث الاستعماري الذي حكم القارة سلطوي، قائم على البطش والسيطرة بالقوة العسكرية.

فضلاً عن أن النظم السياسية التي حكمت القارة بعد الاستعمار جاءت عبر كفاح مسلح بمسمى حركات التحرر المناهضة للاستعمار، وهي أشبه بالنظم العسكرية، وبالتالي، لم تعد النظم المدنية محل ثقة، وسرعان ما تجهضها انقلابات عسكرية.

_____________

مقالات مشابهة

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *