الصادق النيهوم
يقال الآن إن الدول العربية قد دخلت عصر العلم , بعد ان صار لديها جندي يقاتل بالصواريخ , وطبيب مدرب على الجراحة المعقدة , ومهندس متخصص في بناء الجسور. وهو قول حسن , قد يطيب سماعه , لكنه ــ للأسف ــ تنقصه صفة العلم بالذات .
فتأهيل المواطنين العرب لأداء الخدمات العامة في مجتمع معاصر, لا يعني ان العرب , قد دخلوا عصر العلم , بل يعني ــ حرفيا ً ــ أنهم يركضون وراءه. وهم يركضون في الواقع منذ عصر محمد علي باشا , وينزفون عرقا ً ونقودا ً , لمجرد الحفاظ على أدنى مستويات الخدمة العامة .
أما دخول عصر العلم , فإنه فكرة أخرى , لها شرط أساسي آخر, هو ان تدخل البيئة نفسها في عصر العلم , وليس المجتمع فقط . وفي هذا المجال لا يبدو العرب متأخرين جدا ً , بل يبدون خارج السباق من أوله . إن الصحراء ــ وطن العرب الوحيد ــ لا تزال هي الصحراء التي عرفها عصر الجفاف , منذ عشرة آلاف سنة على الأقل . وإذا كان العرب قد وصلوا الآن إلى عصر العلم , فلا بد من أنهم قد ذهبوا إليه من دون وطنهم :
فالنخلة ــ شجرة الصحراء الوحيدة لا تزال تنمو, كما كانت تنمو في العصر المطير. إنها لا تزال أطول قامة مما يجب , وأبطأ نموا ً مما يجب , ولا تزال نواتها , لغة غير مقروءة . فلا يعرف الفلاح جنس النخلة إلا بعد نمو الشتلات . ولا يعرف ماذا يفعل بالنواة نفسها , سوى ان يطعمها للخراف .
هذه النخلة , هي مصنع السكر الوحيد , المجهز للعمل في مدار السرطان . إنها معجزة تقنية هائلة , نجحت في تحدي عصر الجفاف , واستضافت الإنسان نفسه في بيئة الصحراء , وأطعمته رطبا ً جنيا ً , على قاع بحر من الرمل الميت . ولولا الرطب , لما كان بوسع العرب , أن يستوطنوا الصحراء أصلا ً .
هذه النخلة لم تدخل عصر العلم , حتى إذا كان العرب قد ذهبوا إليه . إنها لم تكسب لنفسها موقعا ً في السوق العالمي لان ثمارها لم تصبح خامات لمستحضرات صناعية , بل بقيت ــ كما كانت دائما ً ــ ثمارا ً موسمية , يصعب حفظها وتداولها, مما جعل النخلة , مصدر فقيرا ً جدا ً , لرزق فلاح مدهوش جدا ً , يواجه نفقات الحياة في عصر العلم , بميزانية فلاح في عصر الجفاف .
ومثال آخر :
الجمل ، شاحنة العرب الخارقة التي فتحت أمامهم باب الصحراء , خسر وظيفته في النقل , بعد ظهور الشاحنات الميكانيكية , وبات عليه ان يبحث لنفسه عن وظيفة أخرى ,أو ينقرض .
لقد كان عليه , أن يصبح مصدرا ً للحليب واللحم والجلود , أو يخلي مكانه أمام الأبقار التي نجح العلم الحديث في تطوير فصائلها إلى حد أتاح لها أن تستحوذ كليا ً على سوق اللبن , وسوق اللحم معا ً .
ما فعله العلم للبقرة , كان بوسعه أن يفعله للجمل , فلم يكن ثمة عائق تقني أمام تطوير فصائل جديدة من نياق الحليب , والنياق الثنائية الولادة , سوى أن العرب ــ أصحاب الجمل ــ قد ذهبوا إلى عصر العلم , على ظهر جمل آخر.
والواقع , إن علماء الدول العربية , قد أقاموا صناعة الألبان في وطننا , على أكتاف بقرة هولندية , تم تطويرها في أوروبا , بمثابة مصنع حليب متحرك , يستهلك يوميا ً قنطارين من العشب الأخضر, ويحيلها يوميا ً إلى قنطار من الحليب . وهي صفقة علمية حقا ً في أوروبا , حيث يتوفر العشب الأخضر مجانا ً. أما وطننا , فإن غياب العشب الأخضر, قد جعل وصول هذه البقرة النهمة , إلى مزرعة الفلاح العربي , كارثة عليها , وعلى الفلاح معا ً. فالبقرة لا تستطيع أن تأكل أعشابنا الشوكية , ولا تستطيع أن تخرج للمرعى أصلا ً من دون أن تكسر رجلها. والفلاح لا يجد ما يطعمها لان سعر اللبن المستورد أرخص كثيرا ً من سعر عشائها .
ومثال ثالث :
نباتات الصحراء التي ظلت مجرد نباتات في الصحراء حتى الآن . لماذا لم تدخل عصر العلم , ما دام العرب قد ذهبوا إليه ؟ إنها لا تزال أعشابا ً وحشية , لم يتم استئناسها , ولم يهتم أحد بزراعتها فلاحيا ً, ولم تصبح مصدرا ً للمستحضرات , ولم تكسب لنفسها في السوق , سوى رف صغير في دكان العطار.
أحد هذه الأعشاب , اسمه الزعتر. وهو نبات يحتل مكانه كبيرة في أغاني العرب وأشعارهم . أما في علومهم , فإن الزعتر لا يزال حتى الآن نبتة بعلية , لا تقوم عليها صناعة واحدة , ولا تملك من عالم العرب الواسع , سوى صحن الزعتر الذي يتوارى عادة وراء صحن الزيت .
ومثال رابع :
الشمس , تلك النار التي تحرق العرب منذ عصر جدهم إبراهيم . لماذا لم تصبح برداً وسلاما ً على أحفادهم ؟
إن برنامجا ً مكثـفا ً واحدا ً , لتنشيط البحوث في ميدان تخزين طاقة الشمس ,كان من شأنه أن يحقق معجزة إبراهيم حرفيا ً, ويوفر للعرب الطاقة الصحيحة الوحيدة التي تستطيع أن تضمن لهم وطنا في قلب النار. فمن دون طاقة الشمس , تتضاعف تكاليف الحياة العصرية في الصحراء , إلى حد يتجاوز إمكاناتها على الإنتاج . وإذا شاء فلاح يملك مائة نخلة , أن يســقى نخلاتـه بمحرك , ويضيء بيته بالكهرباء , ويضع جهاز تكييف في غرفة نومه , وثلاجة في غرفة الأكل, فإن إنتاج المائة نخلة , قد لا يغطي في الواقع تكاليف استهلاكه من الطاقة وحدها . وهي ثغرة , قد تسدها أموال النفط لبعض الوقت , لكنها لا تستطيع أن تسدها الوقت كله.
 فالصحراء ــ من دون طاقة الشمس ــ لن تكون أبدا ً وطنا ً أو دولة, بل ستكون واحات مزدحمة إلى الأبد , تعاني مشكلة الزحام بالذات , في أراض جرداء خالية , تزيد مساحتها على مساحة القمر. إن الدول العربية , لا تستطيع أن تدخل عصر العلم , ما دامت أرضها ـــ وشمسها ـــ لا تزالان في عصر الجفاف .
الحل الذي ألتزمته الدول العربية , لمواجهة هذا الواقع , تمثل حتى الآن في إنشاء ما تدعوه باسم (مراكز البحث العلمي), وهي تسمية دعائية أخرى , لا تنقصها روح العلم وحده , بل تنقصها ــ هذه المرة ــ روح الواقعية .
فمراكز البحث العلمي , لا تعيش خارج السوق الرأسمالية , إلا بقدر ما يعيش حوت على البر. إنها جزء من آلة كبيرة واحدة , تبدأ بتمويل البحوث , وتنتهي بتسويق الإنتاج , في دائرة لا تكتمل أصلا ً , إلا في البلدان الرأسمالية وحدها . وهي مشكلة تعالجها الأمم الفقيرة أحيانا , بسرقة أسرار البحوث عن طريق الجواسيس  لكنها في اغلب الأحيان , مشكلة صعبة على الحل. وإذا كانت الدول العربية , قد اختارت أن تتجاهل هذا الواقع, وتقيم لنفسها مراكز للبحث العلمي على الورق , فإن ذلك خطأ علني , عقابه العلني أن هذه المراكز, لم تنجح حتى الآن, في انجاز مشروع علمي واحد , ولم تفتح سوقاً واحدة أمام منتجاتنا , ولم يكن بوسعها أن تدافع عن سوقنا المحلي نفسه . 
منذ أن انتصرت الكوكاكولا على العرقسوس , وفقد السواك أسنانه , أمام معجون الأسنان ,كان من الواضح أن مراكز البحث العلمي في وطننا , ليست وطنية جدا , وأن الدول العربية , تخسر معركة اقتصادية , تجري في مدنها يومياً , من دون ان تدري . وهو عقاب , يبدوا عادلا ــ ومناسباً ــ لمن يدعي صفة العلم , من دون نعمة العلم نفسه. 
فمركز البحوث ليس معملا ً للتجارب أو مكتباً يلتقي فيه الخبراء . إنه شركة , تمولها مصارف , لتسويق منتجات محددة سلفاً , بناء على خطة محددة سلفاً . وكل مشروع , قابل لتحقيق الربح , وقابل بالتالي لإقناع المصرف يصبح تلقائياً موضعاً للبحوث , من تطوير مساحيق الزينة إلى تطوير الصواريخ .
مركز البحوث شركة , أصغر مكتب فيها , يشغله مركز البحوث , والباقي مخصص , لمن يتولى مسؤولية الإنتاج من قسم التسويق إلى قسم الإعلان والعلاقات العامة .
ليس ثمة بحوث في الفراغ .
ليس ثمة شيء اسمه علم من دون سوق .
 إن إسرائيل التي اكتشفت هذه الصيغة مبكراً , لم تعمد إلى إنشاء مركز لبحوث البرتقال في يافا , بل عمدت إلى إنشاء شركة أميركية دعتها ( يافا ) . وأمام هذه الشركة , فتحت المصارف الأميركية خزائنها للإنفاق على البحوث والإعلانات التي دفعت ( يافا ) إلى مكان مرموق بين مشروبات الغربيين .
 والواقع أن الإسرائيليين وحدهم ــ الغرباء عن بيئة الصحراء ــ هم الذين يرتادون حالياً مجالات تطوير هذه البيئة , من تسخير طاقة الشمس في تحلية مياه البحر, إلى أسواق جديدة أمام الزعتر. وهو نجاح يتحقق للأسف , على حساب الدول العربية بالذات , التي لا تملك فرصة لكسب السباق , ما دامت خارج الملعب نفسه :
رأس المشكلة أن عصر العلم , لا تدخله الدول , بل تدخله الشركات . إنه مرحلة حديثة جدا في مسيرة الحضارة . بدأت تاريخياً , بعد استيطان أميركا , وانتصار الثورة الصناعية في غرب أوروبا . ففي مناخ هذه الثورة , تنامت الشركات التي تولت تمويل البحوث العلمية لتطوير أسواقها , وافتتحت بذلك عصراً طارئاً على مسيرة العلم نفسها .
قبل مولد الشركات , كان العلم هواية , وكانت نتائجه المدهشة تظل في العادة نتائج مدهشة على الورق . فنظرية التوتر الكهربائي , كانت ستظل مجرد نوع من الرجم بالغيب , لولا أن شركة أديسون صنعت المصباح الكهربائي . ونظرية الموجات الأثيرية كانت ستظل نظرية غيبية أخرى , لولا ان شركة ماركون نجحت في تصنيع الجهاز الذي يستقبلها على قنوات محددة . ونتائج البحوث الجارية حالياً , في الجينات , كانت ستظل علماً خرافياً مثل علوم السحرة , لولا أن شركات الطعام , سارعت إلى تطوير فصائل جديدة من بذور القمح والأبقار والدجاج .
إن هذه الشركات , هي التي فتحت قمقم المارد , وسخرت نتائج العلم لتغيير وجه الأرض والسماء معاً. ومن دون هذه الشركات , يصبح العلم مجرد مارد من ورق .
ورأس المشكلة , أن الدول العربية , لا تستطيع أن تدخل عصر الشركات , حتى بمعونة الخبراء , بسبب نقص أساسي في قاعدتها الإدارية , فأموال العرب ليست في أيدي العرب , بل في أيدي حكوماتهم . وفي صيغة مالية من هذا النوع , لا يكون المواطن شريكاً مساهماً في الوطن , بل يكون موظفاً فيه , وتصبح فكرة الشركة المساهمة نفسها , انقلاباً سافراً على نظام الحكم . إن الدول العربية قد تقف على باب العلم ألف سنة أخرى من دون ان تدخله , لان حارس الكنز, لا يفتح باب الكنز, حتى يسمع كلمة السر.
وكلمة السر هي الحرية.
هي إطلاق سراح المواطن العربي , والمال العربي , من سجنهما الطويل في خزائن الحكومة , وإنهاء عصر الإقطاع المقنع في مصارف الدول العربية .
إن كلمة السر هي ( الناس ) .
فإذا استعاد الناس حقهم في العمل , وأصبح المال العام مالاً عاماً حقاً , يتحول الوطن إلى شركة مساهمة , وتتحول الشركة المساهمة إلى دولة تدار بأيدي المساهمين . فيصبح أعضاء مجلس الإدارة , عرضه للحساب في أدق التفاصيل , ويتجه التعليم لزيادة الإنتاج , ويلتزم التخطيط بتطوير البيئة , وتدخل الدولة عصر العلم , وهي تحمل سلة كبيرة من ثماره .
من دون الناس , ليس ثمة سلة.

____________________

 مقال  نشر في مجلة الناقد سبتمبر 1988 

 

مقالات مشابهة

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *