هدى مزيودات

تبحث هذه الدراسة في تكوين الجاليات الليبية في المنفى منذ عام 2011، والعلاقات المختلفة التي تربطها بالوطن، وبعض من الأدوار المختلفة التي اضطلعت بها من أجل بناء المجتمع المُتخيَّل ومشاركتها في إعادة بناء البلاد.

الجزء الأول

لاقت عملية التغيير في ليبيا في عام 2011 دعماً كبيراً من الليبيين في المنفى للإطاحة بالدكتاتور القذافي، الذي حكم البلاد لفترة طويلة، والذين لم تطأ أقدام كثير منهم البلاد منذ عقود، بعضهم منذ عام 1969، حين نفذ القذافي انقلابه العسكري على الملك محمد إدريس السنوسي.

شكل الليبيون في المهجر مجتمعاً مترابطاً للغاية يتألف من مثقفين وأطباء وأساتذة جامعيين وفنانين وسياسيين وغيرهم من نشطاء المجتمع المدني، فكوَّنوا معاً قوة معارضة للنظام.

ومع تجلي التفاصيل لما بدأ في 2011 كانتفاضة شعبية ليبية، ما لبثت أن تحولت إلى حرب أهلية ثم إلى حرب بالوكالة، توسَّع الشتات الليبي ليشمل فئات جديدة من النشطاء والفاعلين السياسيين من الذين التمسوا اللجوء في الخارج، إضافة إلى فئات اقتصادية واجتماعية جديدة ممن فروا من البلاد بسبب الأوضاع الاقتصادية والأمنية المتدهورة.

لكن على الرغم من هذه السمات المتنوعة لأبناء الشتات، لم يقوض النزاع مطلقاً الجهود التي يبذلها الليبيون في المنفى لإعادة بناء مجتمع قادر على الاحتشاد من أجل تعزيز السلام والمصالحة.

وانطلاقاً من الشبكات المتينة التي كونها أبناء المهجر مع صناع السياسات الغربيين والعرب خلال سنوات المنفى الطويلة، استطاع الشتات الليبي الذي لم يكن يتألف يوماً من نسيج متجانسالمساهمة في التغييرات التي حدثت في البلاد منذ سقوط نظام القذافي.

تبحث هذه الدراسة في تكوين الجاليات الليبية في المنفى منذ عام 2011، والعلاقات المختلفة التي تربطها بالوطن، وبعض من الأدوار المختلفة التي اضطلعت بها من أجل بناء المجتمع المُتخيَّل ومشاركتها في إعادة بناء البلاد.

ومن خلال استكشاف طبيعة الشتات وتوزيعه الجغرافي، مع تركيز خاص على الجالية الليبية (من أنصار القذافي) في تونس مقابل مثيلاتها في المملكة المتحدة والولايات المتحدة (من معارضي النظام السابق)، تقيِّم الدراسة الطابع الذي يميّز أبناء الشتات الليبيين في منفاهم.

وخلص البحث إلى أن القضايا المتعلقة ببناء السلام والمصالحة وتمكين المرأة والأقليات تمثل نقاطاً محورية لِليبيين في المهجر، الذين على الرغم من اختلاف انتماءاتهم الأيديولوجية والثقافية والقَبَليّةيمكنهم التوصل إلى أرضية مشتركة عندما يتعلق الأمر بمناقشة مستقبل ليبيا في مرحلة ما بعد الإطاحة بالقذافي.

لكن، عند دراسة عمل المنظمات الليبية في المهجر وتوضيح سياق موجات النزوح المختلفة ووجهاتها المتعددة، أشار البحث أيضاً إلى وجود اختلافات كبيرة في أنماط التعبئة التي يضطلع بها أبناء الشتات.

وبشكلٍ أكثر تحديداً، أظهر البحث أن الروابط بين الليبيين في المهجر ووطنهم تختلف باختلاف علاقتهم به، شأنها شأن هياكل الفرصة السياسية، وهو ما يؤثر على نوع التعبئة التي يضطلع بها الشتات.

وهكذا، فإن الليبيين المغتربين في تونس الذين يمثلون فلول النظام السابق ـ يلتزمون بأنماطٍ من الهجرة أو الحراك الدائري وغالباً ما يأملون في العودة، وهم أيضاً الأكثر تخوفاً من المشاركة في التعبئة السياسية والأكثر تعرضاً للخطر حينهايميلون إما إلى البقاء بعيداً عن الأنظار أو يفضلون أن تكون مشاركتهم من خلال أنشطة المنظمات الدولية الموجودة في تونس وأُطُرها.

على النقيض من ذلك، نجد أن المغتربين في العواصم الغربية (أغلبهم من معارضي النظام السابق) تمكنوا من بناء علاقات قوية مع صناع سياسات أجانب وبعض المنظمات الدولية من أجل الترويج والدعاية لعمليات التحول السياسي في ليبيا وممارسة الضغط لصالحها.

لكن في كل الحالات، واجهت المشاركة السياسية المباشرة لليبيين المغتربين في سياسات الوطن عدداً من القيود المؤسسية والقانونية والعقبات الإدراكية، لكن تلك المشاكل أظهرت مع ذلكمؤشرات على إمكانية تجاوزها والتغلب عليها من خلال الانتماء المشترك للمجتمع الليبي المُتخيّل.

استناداً إلى مقابلاتٍ منسقة مسبقاً وأخرى شبه منسقة مع أربعة مغتربين ليبيين، واستبيانٍ على الإنترنت تم نشره عبر بودكاست ليبي مشهور، وحوارٍ مع مقدم ومُعِد البودكاست، وحضوري مؤتمرَين عبر زووم نظمتهما مؤسسة ليبية في الشتات، واعتماداً على البيانات الإحصائية المتاحة، وإجراء استعراض كَيفِي للمحتوى الذي نشرته مجموعات الشتات الليبي على منصات التواصل الاجتماعي في الفترة ما بين أيلول/سبتمبر 2019 وكانون الثاني/يناير 2021، تُقدِّم لنا الدراسة تقييماً عن طبيعة العلاقة التي تربط أفرادَ الشتات الليبيين بوطنهم وبعضَهم ببعض، وكيف تؤثر تلك العلاقات في أنماط التعبئة المختلفة التي يضطلعون بها.

تختتم الدراسة بعرض بضعة توصيات لصناع السياسات الليبيين والدوليين فيما يتعلق بأفضل سبل تقديم الدعم إلى الشتات الليبي لتنفيذ جهودهم الرامية إلى تعزيز المصالحة وبناء السلام والإصلاح المؤسسي وتحقيق العدالة الانتقالية في ليبيا.

الإسهامات الأولى للشتات الليبي: بناء دولة قومية وتعزيز مفهوم الوطنية الليبية

حتى قبل تأسيس دولة ليبيا الحديثة، أدى مجتمع المنفى دوراً محورياً في تشكيل وتعزيز الدولة القومية ومفهوم الوطنية الليبية. فوَفقاً للكاتبة آنا بالدينيتي، تشكلت النواة الأولى للهوية الوطنية الليبية بفضل أنشطة الليبيين الذين يعيشون في المنفى عقب الاحتلال الإيطالي لليبيا عام 1911.

فقد كان لهم دور في دمج الهويات الإثنية والقبلية وغيرها من انتماءات وروابط القرابة في مجموعة من الأحزاب السياسية، وهو الأمر الذي ساهم في تشكيل الهوية الوطنية الليبية كما نعرفها اليوم.

ومع نيل البلاد استقلالها عن إيطاليا في 24 كانون الأول/ديسمبر من عام 1951، وفي ظل التغيرات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية العميقة التي حدثت في الفترة بين عامي 1951 و1969 –العام الذي جاء بالقذافي عبر انقلاب عسكري على الملك إدريس السنوسيتصاعدت وتيرة عمليات النزوح وكذلك جهود التعبئة التي يضطلع بها أبناء الشتات.

وقد أدى التغيير السياسي الهائل في فترة حكم القذافي إلى خروج النخب السياسية والاجتماعية والثقافية إلى مصر المجاورة، وكذلك إلى البلدان الغربية خاصة المملكة المتحدة والولايات المتحدةالتي تستضيف أكبر الجاليات الليبية في الشتات. وقد واصلت تلك الجاليات المساهمة في بناء وتعزيز مفهوم الدولة الوطنية الليبية.

على الرغم من ذلك وبينما ساهم الشتات الليبي في السنوات التي سبقت 2011 في تعزيز مفهوم الوطنية الليبية، واجهت التعبئة التي يضطلع بها معوقات كبيرة تحول دون إمكانية إحداث تأثير كبير على سياسات الوطن.

يناقش بيتر سيبرغ، على سبيل المثال، تهميش الشتات الليبي في عهد القذافي نتيجة العزلة الدولية التي فُرضت على ليبيا من أواخر الثمانينات حتى أوائل العقد الأول من الألفية (وحتى بعد 2011)، نظراً لتدهور الوضع الأمني، الأمر الذي جعل من الصعب على الجاليات في الشتات التأثير على الوطن.

غير أن هذا الوضع تغير مع اندلاع انتفاضة 2011 وبعد الإطاحة بنظام القذافي. فقد أدى القمع العنيف الذي مارسه النظام إلى فرار الآلاف من الليبيين خاصة الموالين للقذافي في بادئ الأمرإلى الجارتين مصر وتونس، ومن ناحية أخرى، شهدت الثورة الليبية أيضاً عودة بعض المنفيين منذ عام 1969.

ثم تغيرت الديناميات مجدداً في 2014، عندما حدثت موجة جديدة من الهجرة فراراً من الحرب الأهلية. وهكذا شهدت تلك الموجات المختلفة من الهجرة تنوعاً في طبيعة الشتات الليبي، وتميزت أيضاً بوجود فرص جديدة للمشاركة في القضايا المتصلة بالوطن.

لقد أدى سقوط نظام القذافي إلى ظهور أدوار جديدة للشتات الليبي تساهم في التطورات السياسية الجارية في الوطن، وفي نمو مفهوم الدولة الوطنية الليبية.

أصبح انخراط الليبيين في الخارج، بعد انعتاقهم من القمع العابر للحدود الذي تعرضوا له في ظل نظام القذافي، أكثر بروزا مع نشاطٍ في الحشد والتعبئة لمواجهة القمع.

وعلى وجه الخصوص، ساعد مجتمع المنفى الليبي، الذي حشد لدعم انتفاضة 2011، من مواقعه في الشتات، على تحديد معالم المرحلة الانتقالية في ليبيا ما بعد القذافي، ساعياً إلى لعب دور نشط في العملية الانتقالية.

مع ذلك، فإن الأشكال المختارة لتوجيه التعبئة للوطن والمشاركة في سياساته، إضافة إلى الفرص والقيود القائمة لكل نمط من أنماط التعبئة، ترتبط إلى حد كبير بأماكن الشتات، وكذلك بالموقف تجاه ليبيا.

تُظهر مقارنةُ ديناميات الهجرة والتعبئة بين الليبيين في تونس وأولئك المقيمين في أوروبا وأميركا الشمالية مجموعةً مختلفة من المؤشرات التي تنبئ عن ديناميات التعبئة.

***

هدى مزيودات ـ صحفية مستقلة وباحثة في مجال الشؤون الليبية والتونسية

__________

مبادرة الإصلاح العربي

مقالات مشابهة

5 CommentsLeave a comment

  • Нарколог является ключевым специалистом в процессе лечения алкогольной интоксикации. Он не только проводит диагностику, но и подбирает индивидуальное лечение, учитывая все особенности пациента.
    Разобраться лучше – [url=https://kapelnica-ot-zapoya-irkutsk3.ru/kapelnica-ot-zapoya-v-stacionare-v-irkutske/]капельница от запоя в стационаре в иркутске[/url]

  • Алкогольная зависимость — это одна из самых распространённых форм аддиктивного поведения, которая оказывает разрушительное воздействие на физическое и психическое здоровье человека. Запой, как тяжелое состояние, характеризуется длительным и бесконтрольным употреблением спиртных напитков, что приводит к серьёзным последствиям, таким как разрушение органов, психические расстройства и высокий риск летального исхода. В таких случаях необходимо срочное и квалифицированное вмешательство специалистов, чтобы предотвратить осложнения и восстановить здоровье пациента.
    Подробнее тут – [url=https://vyvod-iz-zapoya-14.ru/vivod-iz-zapoya-na-domu-v-sankt-peterburge/]вывод из запоя с выездом на дом [/url]

  • Клиника «Шаг к Трезвости» в Краснодаре предлагает анонимный вывод из запоя с гарантией конфиденциальности на каждом этапе лечения. Мы понимаем, как важно сохранить личную информацию в тайне, и гарантируем полную защиту данных о пациенте и его здоровье. Независимо от того, выбрал ли пациент стационарное лечение или вывод из запоя на дому, мы обеспечиваем высококачественную медицинскую помощь, строго соблюдая принципы конфиденциальности.
    Углубиться в тему – [url=https://vyvod-iz-zapoya-12.ru/vivod-iz-zapoya-na-domu-v-krasnodare/]vyvod iz zapoya vyzov na dom [/url]

  • Эта информационная заметка предлагает лаконичное и четкое освещение актуальных вопросов. Здесь вы найдете ключевые факты и основную информацию по теме, которые помогут вам сформировать собственное мнение и повысить уровень осведомленности.
    Выяснить больше – https://afnews.ng/outside-the-box-your-revenue-is-not-too-low-your-costs-are-too-high-alex-otti

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *