هدى مزيودات

تبحث هذه الدراسة في تكوين الجاليات الليبية في المنفى منذ عام 2011، والعلاقات المختلفة التي تربطها بالوطن، وبعض من الأدوار المختلفة التي اضطلعت بها من أجل بناء المجتمع المُتخيَّل ومشاركتها في إعادة بناء البلاد.

الجزء الثالث

الفرص والقيود أمام المشاركة السياسية المباشرة لليبيين في الشتات

ولى جانب النشاط الإلكتروني وتشكيل الرأي العام والشعور الوطني، ينخرط أبناء الشتات الليبي أيضاً في أشكال مباشرة من المشاركة السياسية الساعية إلى إحداث تأثير فوري على العملية الانتقالية والنظام الليبي في مرحلة ما بعد سقوط القذافي. فعلى النطاق الأوسع، بدأت في عام 2012 لحظة تاريخية لانخراط الشتات الليبي مباشرة في السياسات المحلية، مع جهود نشطة لإدراج المواطنين بالخارج في قوائم الناخبين في الانتخابات التشريعية.

خلال أولى الانتخابات الديمقراطية في التاريخ الليبي الحديث (منذ استقلال البلاد عن إيطاليا في عام 1951)، نشط الليبيون في الشتات في تعبئة جالياتهم من شمال أفريقيا والشرق الأوسط وأوروبا وأميركا الشمالية إلى أقاصي آسيا (وتحديداً في ماليزيا والصين، حيث يوجد عدد كبير من الطلبة الليبيين).

وشهدت هذه الانتخابات 60 ألف تسجيل للمشاركة، مع مشاركة النساء في التصويت للمرة الأولى في التاريخ الليبي، وأدلَين بأصواتهن لاختيار 200 عضو في المؤتمر الوطني العام.

لكن على الرغم من لحظة الحماسهذه التي تميزت بكونها لحظة من التواصل المجتمعيللدور المحتمل لجاليات الشتات إسهاماً في بناء المستقبل الليبي في مرحلة ما بعد سقوط القذافي، أدّت القدرة المؤسسية المحدودة إلى انخفاض إقبال الناخبين في المنفى، إذ لم يُدلِ سوى 8021 ناخباً بأصواتهم في الانتخابات.

وقد مثّل الإرثُ الثقيل لعهد القذافي وثغراته المؤسسية والمعلوماتية والتنفيذية عقباتٍ في سبيل تحقيق مشاركة فعالة لأبناء الشتات الليبي في الانتخابات. إضافة إلى ذلك، نظمت المفوضية الوطنية العليا للانتخابات، منذ 2013، عدداً من الورش والمؤتمرات والفعاليات حول تسجيل الناخبين والانتخابات، مستهدفة الليبيين في الخارج.

ويضاف إلى هذا احتفاظ المفوضية بقواعد بيانات تشمل الأخبار والبيانات الصحفية للحملات الانتخابية المختلفة وعملية تسجيل الناخبين والشراكات المتصلة بالانتخابات مع المنظمات الدولية.

وقد جاء أيضاً تأسيس منصة انتخابية لليبيين في الشتات، من أجل تشجيعهم على المشاركة في الانتخابات، مع استخدام حقهم في التصويت على نحو ما كفلت مسوّدة الدستور الليبي، التي تحوي المادة 149 حول حقوق الليبيين في الخارجوتنص على أن الدولة تتخذ التدابير اللازمة لـضمان … مشاركتهم في العملية الانتخابية“.

ولكن في الوقت نفسه تم تقليص مشاركة الليبيين في الشتات في السياسات المحلية، بسبب قيود قانونية إضافة أيضاً لافتقارهم في عيون مَن ظلوا في ليبيا إلى الشرعية [للانخراط في العملية السياسية].

فمع أن المجلس الوطني الانتقالي (2011) والمؤتمر الوطني العام وحكومة الوفاق الوطني المدعومة من الأمم المتحدة (2016) كانوا جميعاً يتألفون أساساً من ليبيين تكنوقراط من الشتات، كانت تلك الهيئات تكاد تفتقر تماماً إلى الخبرة السياسية، نظراً لانقطاعهم عن المشهد السياسي الليبي خلال سنوات حكم القذافي، ولكن أيضاً نتيجة انعزالهم عن عموم الشعب.

في الواقع، يكشف مصطلح الشفرة المزدوجة” – الذي صار تعبيراً شائعاً لازدراء أي ليبي يحمل جنسية مزدوجة أو من الجيل الثاني أو جيل 1.5 [المهاجرون الذين وصلوا إلى بلد جديد قبل المراهقة] في الشتات الليبي عن مدى افتقار الشتات إلى الشرعية في أعين مَن ظلوا داخل البلاد.

إضافةً لتلك القيود، مثّل قانون العزل السياسيفي عام 2013 إحدى أبرز المحطات السياسية الحاسمة، فقد حدّد بشكل كبير الدور الممكن لليبيين في الشتات خلال المشاركة المباشرة في السياسات الليبية في مرحلة ما بعد سقوط نظام القذافي.

يحظر القانون على كبار المسؤولين في عهد القذافي تقلد مناصب قيادية في مؤسسات الدولة الليبية الجديدة لفترة من الزمن، وهي عملية مُشابهة لسياسة اجتثاث حزب البعثالتي شهدها العراق، وقد أسفر ذلك عن زيادة عدد الخاسرين جراء عملية الانتقال الليبية.

وقد أثر القانون سلباً على الليبيين في الشتات نظراً إلى أنه أضعف قدرتهم على التأثير على التطورات السياسية في ليبيا، وأثر سلباً على فاعلية سير عمل المؤسسات الليبية، مما أدى إلى تفاقم الحالة الأمنية المضطربة أصلاً في ليبيا.

وقد زاد ذلك أيضاً من الشكوك حول قدرة الليبيين في الخارج على القيام بدور فعال في إعادة إعمار البلاد ومؤسساتها. بيد أن تعبئة الليبيين في الشتات بهدف المساهمة في العملية الانتقالية وإعادة الإعمار قد وجدت سُبل مختلفة للعمل، بدءاً من ممارسة الضغوط التقليدية على المجال السياسي في البلدان المضيفة، ووصولاً إلى توجيه المساعدات التنموية نحو السعي إلى تحقيق العدالة الانتقالية.

فقد دأبت واحدة من المجموعات البارزة منذ فترة طويلة على العمل من أجل ممارسة الضغوط والتواصل مع صناع القرار السياسي في الولايات المتحدة، وهي منظمة التحالف الليبي الأميركي، التي تتخذ من واشنطن العاصمة مقراً لها وتعمل على مساعدة المجتمع الأميركي الليبي إضافةً إلى الكنديين الليبيين.

وفي الآونة الأخيرة، قامت المنظمة، التي تصف نفسها بأنها منظمة غير حزبية تهدف إلى الدفاع عن سيادة القانون، والدولة المدنية، والديمقراطية، وإنهاء النزاع القائم في ليبيا، بالضغط من خلال رفع دعوى قضائية على الجنرال خليفة حفتر، مُتهمة إياه بارتكاب جرائم وحشية خلال حملاته العسكرية، وخاصة في عام 2019.

وفي تشرين الثاني/نوفمبر 2020، احتفلت المنظمة أيضاً بانتصار رمزي بسبب نجاح جهودها بالتعاون مع صناع القرار السياسي في الولايات المتحدة، مما أسفر عن إقرار مجلس النواب الأميركي لقانون دعم الاستقرار في ليبياالذي يُلزم الإدارة الأميركية بتوضيح استراتيجيتها، والإبلاغ عن التدخلات الأجنبية، وفرض حزمة من العقوبات ضد من ينتهكون الحظر المفروض على توريد الأسلحة أو يسعون إلى تقويض استقرار ليبيا وأمنها“.

وعلاوةً على ممارسة الضغوط السياسية، شاركت المنظمة أيضاً في العمل مع النساء في ليبيا والمجتمع المدني بشكل عام خلال جائحة كورونا. وقد شمل ذلك التنسيق مع مركز مكافحة الأمراض والوقاية منهالتخفيف أثر الجائحة على الليبيين ودعم البنية التحتية الطبية الخاصة بجائحة كورونا في ليبيا.

ومن بين الجهات الفاعلة الرئيسية الأخرى على الساحة، تأتي شبكة حقوق الإنسان العابرة للحدود محامون من أجل العدالة في ليبيا، التي تسعى إلى محاسبة أي شخص مُتورط في انتهاكات حقوق الإنسان في ليبيا.

ومن خلال العمل بالتعاون مع المنظمات الدولية وبعض الحكومات الغربية ووكالاتها، تعتبر منظمة محامون من أجل العدالة في ليبياأحد الأمثلة الرئيسة لشبكات التعبئة التي ظهرت ما بعد 2011 من العاملين في مجال حقوق الإنسان، والتي نشأت ليس فقط في السياق الليبي ولكن في العديد من مجتمعات الشتات الأخرى من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ما بعد 2011.

وتشمل أنشطة المنظمة مقاضاة مُرتكبي الجرائم ضد المدنيين وتقديم المساعدة لضحايا النزوح القسري، بالإضافة إلى جهود دعم المنظمات الدولية من بينها، الأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية.

على سبيل المثال، في حزيران/يونيو 2020، دعمت منظمة محامون من أجل العدالة في ليبيابعثة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق، مما أدى إلى تسليط الضوء على المقابر الجماعية في مدينة ترهونة، وتوجيه الاتهام إلى القوات المسلحة الليبية التابعة للجنرال خليفة حفتر لارتكابها جرائم ضد المدنيين وحالات الاختفاء القسري في أوائل عام 2020. فضلاً عن أن المنظمة تُصدر تقرير سياسي شامل يتضمن وقائع عن حالة حقوق الإنسان في ليبيا.

في الآونة الأخيرة، ظهرت شواهد تُشير إلى دور الشتات الليبي في المساهمة في التحول السياسي في ليبيا عبر ملتقى الحوار السياسي الليبيوالنجاح الكبير الذي تحقق في شباط/فبراير عام 2021.

يُمثل ملتقى الحوار السياسية الليبية الذي ضم 75 عضواً يُمثلون على أوسع نطاق ممكن عينة من مختلف المناطق والقوى السياسية الليبية، علاوة على عقد حوار رقمي أكبر شمل الكثير من الشباب الليبي داخل ليبيا وفي الشتات محاولة للخروج من المأزق الذي وصلت إليه عملية الأمم المتحدة لبناء السلام من خلال إرساء جهود وساطة يتولى الليبيون زمامها بالكامل من أجل التوصل إلى حل محتمل للأزمة الليبية.

وقد تمكّن ملتقى الحوار السياسي الليبي، الذي ضم أعضاء من الشتات الليبي على وجه الخصوص، من النجاح في تعيين رئيس وزراء ومجلس رئاسي جديدين في الفترة التي سبقت الانتخابات المُزمع إجراؤها في كانون الأول/ديسمبر 2021.

وقد برهن وجود الليبيين في الشتات ضمن ملتقى الحوار السياسي الليبيوالمجموعات التي عُقدت على هامشه، على قدرة مَن هم خارج البلاد على المشاركة المباشرة في العمليات الانتقالية تحت راية الهوية الوطنية الليبية المشتركة والقدرة على تجاوز الانقسامات بين أولئك الموجودين داخل ليبيا وخارجها عندما تتاح لهم محافل للحوار الهادف.

خاتمة

لا يُقصد من هذه الدراسة أن تكون دليلاً شاملاً لمجتمعات الشتات الليبي في مختلف أنحاء العالم؛ بل تهدف إلى إلقاء الضوء على مختلف الديناميات التي توجه مشاركة أبناء الشتات.

فلا يزال الشتات الليبي لا يحظى بقدر كبير من التغطية ولم يكن محل بحث مستفيض، بالنظر إلى الطابع المُعقد الذي يتسم به الموضوع، والمواقف المتشابكة لليبيين في المنفى، بدءاً من النُخب السياسية والاقتصادية التي استقرت منذ فترة طويلة في العواصم الغربية، ووصولاً إلى المهاجرين الذين فروا مؤخراً إلى جنوب أوروبا في أعقاب تدهور الوضع الاقتصادي والأمني في ليبيا.

ومع ذلك، فإن تعزيز قدرة الشتات الليبي على العمل باعتباره طرف سياسي فاعل من أجل المشاركة في عمليات الانتقال وإعادة الإعمار والمصالحة التي تشهدها البلاد، يتطلب استراتيجية أكثر موضوعية لمناقشة وضع هذه الفئة السكانية، ويجب أن توازن هذه الاستراتيجية بين الأساليب الكمّية والنوعية ونُدرة البيانات المُحدثة والموثوقة حول التركيبة السكانية لليبيين في الخارج.

وقد اضطلعت وسائل التواصل الاجتماعي بدور رئيسي في تسليط الضوء على التجربة الغنية لمشاركة وتعبئة الليبيين في الخارج من أجل النهوض بمجتمعاتهم المحلية.

وقد عززت هذه الفضاءات الجديدة أيضاً من صورة ليبيا التي تختلف عمّا يظهر في الأخبار المعتادة حول ذلك البلد الذي تُمزقه الصراعات، ويغيب عن سرده التاريخي جهود إرساء سيادة القانون والتمسك بحقوق الإنسان.

في الواقع، يُمكن أن يواصل مجال الإعلام الليبي في الشتات تعزيز الديمقراطية وبناء السلام، وفي الوقت نفسه تشجيع التمثيل الإضافي للفئات الليبية المُهمشة من أجل زيادة الشعور بالانتماء إلى الأمة.

وفضلاً عن هذه الجهود التي تتخذ طابعاً رمزياً أكثر والرامية إلى بناء الدولة وتعزيز الانتماء الليبي الشامل، فمن الممكن اتخاذ إجراءات ملموسة أخرى من أجل ضمان إشراك الليبيين في الشتات في مستقبل البلاد في مرحلة ما بعد القذافي.

والأهم من ذلك أن الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المُقبلة المزمع إجراؤها في كانون الأول/ديسمبر 2021، من شأنها أن تُوفر فرصة سانحة أمام أبناء الشتات للاضطلاع بدور في مراقبة الانتخابات، والدعم اللوجستي، وتوفير المعلومات للناخبين ومِن ثَمّ، مواصلة المشاركة في عملية الانتقال السياسي في البلاد.

***

هدى مزيودات ـ صحفية مستقلة وباحثة في مجال الشؤون الليبية والتونسية

__________

مبادرة الإصلاح العربي

مقالات مشابهة

3 CommentsLeave a comment

  • buy priligy in usa COV, coefficient of variation; eGFR; estimated GFR; GFR, glomerular filtration rate; GFR 51Cr EDTA, GFR measured with 51 Cr EDTA infusion clearance; GFR CrCl, GFR estimated with urinary creatinine clearance

  • 132, 133 Synthetic lethality is defined as any genetic mutation, chemical or drug perturbation, and environmental conditions that have a unique effect on cell viability but when exploited in combination results in cell death priligy

  • Алкогольная зависимость — это серьезная проблема, требующая немедленного вмешательства. Если вы или ваши близкие столкнулись с запоем, важно получить профессиональную помощь как можно скорее, чтобы избежать ухудшения здоровья. Наркологическая клиника «Шаг к Трезвости» в Краснодаре предлагает услугу вывода из запоя на дому, что является удобным и эффективным решением для тех, кто не может или не хочет посещать стационар.
    Получить дополнительную информацию – [url=https://vyvod-iz-zapoya-12.ru/vivod-iz-zapoya-v-kruglosutochno-v-krasnodare/]vyvod iz zapoya srochno kruglosutochno v-krasnodare[/url]

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *