جمعة الفاخري
القبيلةُ المشوَّهةُ نغمةٌ ارتداديَّةٌ مُقزِّزةٌ يفضِّلُ كثيرٌ من الناسِ التغنِّيَ بها على حسابِ الولاءِ للدَّينِ والوطنِ ، والمجتمعِ الواحدِ المتآلفِ المتحاببِ المتآزرِ .. وقفزًا على تعاليمِ الدِّينِ ، وثوابتِ المجتمع ِ ، وَمُروقًا عنِ القيمِ الإنسانيَّةِ النبيلةِ ..
وقد اقتضت حكمةُ اللهِ جلَّت قدرتُهُ أن يكونَ لكلِّ شيءٍ دورٌ ووظيفةٌ يختصُّ بها ولا يتعدَّاها ، ليستقيمَ ميزانُ الحياةِ ، وتمضي الأمورُ على ما أرادَهُ اللهُ لها ، فكلُّ شيءٍ عندَهُ بمقدارٍ .. فالأشياءُ عندما تخرجُ عن مَسَاراتِهَا المرسومَةِ لها تغدو أمامَ احتمالين : إمَّا أن تفقدَ قيمتَها كليَّةً ، وتخسرَ أهميَّةَ وجودِهَا ، فيتساوى وجودُهَا وعدمُهُ .. أو تمسي كائنًا نشازًا باهتًا سلبيًّا ومشوَّهًا ، وقد تصبحُ خطرًا محدِّقًا بمحيطِها ..
وقد تَعَامَلَ دِيْنُنَا الإِسْلاميُّ الحنيفُ معَ القبيلةِ كمظلَّةٍ اجتماعيَّةٍ تُظِلُّ الفردَ والجماعةَ بموضوعيَّةٍ بالغةٍ ، فحدَّدَ لها إطارًا قويمًا بيَّنهُ لها اللهُ سبحانه وتعالى في قولِهِ : ( يا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائلَ لتعارفوا ، إنَّ أكرمَكُمْ عندَ اللهِ أتقاكم ) ، والواضحُ من معنى الآيةِ الكريمةِ أنَّ خلقَ الإنسانِ في كياناتٍ بشريَّةٍ ( شعوب وقبائل ) لغايةٍ واحدةٍ هي التعارفُ .. هذا في علاقةِ البشرِ فيما بينهم ، والتعارفُ لَهُ مقتضياتٌ كثيرةٌ ، وموجباتٌ عدَّةٌ .. منها المعاملاتُ الدنيَّويةُ المختلفةُ ، كالتزاوجِ والتبادلِ المصلحي ، والتعاونِ في كلِّ أوجهِ الحياةِ الممكنَةِ ، والتَّثاقفِ ونقلِ المعرفَةِ بينَ الأفرادِ والشُّعوبِ والجماعاتِ ، ومن هنا جاءتْ عالميَّةَ الإسلامِ .. وهي أوَّلُ دعوةٍ عولميَّةٍ حقيقيَّةٍ واضحةٍ نقيَّةٍ لا تتخفَّى وراءَ ستارِ نيَّاتٍ مقنَّعةٍ مشبوهَةِ المقاصدِ والغاياتِ ، مفخَّخةٍ ، وبأهدافٍ مبطَّنةٍ تستغفلُ الآخرَ وتسعى للإطاحةِ بهِ في فخاخِهَا المتربَّصةِ به على طولِ الطريقِ ، وفي كلِّ طريقٍ ..
وعودًا على الآيةِ الكريمةِ نرى أنَّ اللهَ حينما قدَّم ذِكْرَ الشُّعوبِ على القبائلِ كان يُشيرُ إلى أهميَّةِ الكيانِ الأكبرِ قبلَ الأصغرِ ، والكلِّ قبلَ الجزءِ .. الجماعةَ قبلَ الفردِ.. لكنَّ الجزءَ إذا تطاولَ على الكلَّ فذلكَ يؤذِنُ بوجودِ خطأٍ ما .. ومروقٍ لابدَّ أن يصحَّحَ ..
ولقد تضخَّمت ( أنا ) القبيلةِ ، واتِّسعَت على حسابِ قيمٍ أهمَّ وأكبرَ .. وفي زمنٍ تتقدَّمُ فيهِ الحياةُ المعاصرةُ باطَّرادٍ في كلِّ جوانبها ، منَ المفترضِ أنْ تذوبَ فيهِ القبيلةُ ككيانٍ قزميٍّ في كيانِ الدولةِ الأكبرِ .. ذوبانًا إيجابيًّا لمصلحةِ الجماعةِ ، الدولةِ ومن ثمَّ الأفرادِ .. فقد انتفخت محشوَّةً بـ ( أنا ) التميُّزِ الموهومِ ، فحينَ تخرجُ القبيلةُ عن جادَّةِ المنطقِ ، وتتجاوزُ دائرةَ القيمِ والأخلاقِ ، تغدو وَرَمًا خطيرًا على المجتمعِ الذي تتورَّمُ فيهِ .. ذلك بسببِِ الفهمِ السيئ لدورِ القبيلةِ .. فأيهما أولى بالولاءِ : الله والوطنِ ، أم القبيلة ..? أما كانَ يجب أن تكونَ القبيلةُ منطلقًا لمحبَّةِ أكبرَ ، لله ثمَّ للوطنِ .. فالوطنُ أمٌّ وأبٌ للجميع .. والغريبُ أن تعودَ سيطرةُ القبيلةِ بمفهومِها البدائيِّ الموروثِ والمعقَّدِ ، والمحفِّزِ على ممارسةِ طقوسِها البدائيَّةِ في جذبِ المجتمعِ للخلفِ أفرادًا ومؤسَّساتٍ ، بتغليبِ منطقِ ( أنا وأخي على الغريب ) ، والاستفادةِ منَ ( انصرْ أخاكَ ظالمًا أو مظلومًا ) بفهمِهِ فهمًا خاطئًا مصلحيًّا ..
وبوقفةٍ موضوعيَّةٍ لتقييمِ القبيلةِ ككيَانٍ اجتماعيٍّ سنجدُ أنها صارَتْ تمثِّل ضررًا بالغًا للمجتمعِ .. وحتى لبعضِ أفرادِهَا أنفسِهِم ، فالمنتفعونَ باسمِهَا قلَّةٌ قليلةٌ ، يُغلِّبونَ مصالِحَهم على مصالحِ بقيَّةِ إفرادِها ، فضلاً عن مصلحةِ المجتمعِ بأسرِهِ .. عائدةً بنا إلى زمنِ القبيلةِ الجاهليَّةِ ، حينَ كانَ السَّادَةُ والمتنفِّذونَ في القبيلةِ همْ أصحابُ الاستئثارِ بكلِّ شيءٍ ، بينما يبقى الفردُ الضعيفُ محرومًا من أبسطِ حقوقِهِ.
وقد أخبرَ الرسولُ أنَّ ذلك كانَ سببًا لهلاكِ أممٍ وأقوامٍ. فالمروقُ والابتزازُ والتحرُّشُ بالآخرِ ، ومحاولةُ إقصائِهِ وتغريبهِ ، فهي ترسَّباتُ ثقافةِ عصورِ ما قبلَ الإسلامِ .. تلكَ العصورُ الجاهليَّةُ التي انحطَّت فيها القيمُ ، وتدنَّتِ الأخلاقُ ، وفسدَتِ النفوسُ ، وطغَتْ فيها الأمراضُ النفسيَّةُ كالقتلِ والتدميرِ والإغارةِ والاقتتالِ ، طغت على روحِ الإنسانِ السَّويِّ الذي خلقَهُ اللهُ سبحانه وتعالى ليصلحَ في الأرضِ : ( إِنَّ اللهَ يأمرُ بالعدلِ والإحسانِ وإيتاءِ ذي القربى وينهى عنِ الفحشاءِ والمنكرِ والبغي يعظكم لعلكم تذكرون ) ليعيشَّ منعَّمًا بتكريمِ اللهِ له .. ( ولقد كرَّمنا بني آدمَ وحملناهم في البرِّ والبحرِ ورزقناهم منَ الطيِّباتِ وفضَّلناهم على كثيرٍ ممَّن خلقنا تفضيلاً) فأيُّ كائنٍ يملكُ مبرِّرًا منطقيًّا واحدًا يُبيحُ لَهُ أن يمرِّغَ كرامةَ مخلوقٍ كرَّمهُ اللهُ في وحلِ العداوةِ والخصومةِ غيرِ المبرَّرِ ، لقد قرَّعَ الفاروقُ عمرُ عمرًا ابنَ العاصِ على صفعِ ابنِهِ لابنِ أحدِ الرعيَّةِ بمصرَ بعدَ أن سبقَهُ في سباقٍ للخيلِ: ( متى استعبدتم النَّاسَ وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا..!? ) هذه المقولة التي عاشت قرونًا محتفظةً بصدقِها وقوَّتها وجرأتها ..تطنُّ في آذانِ الطغاةِ ، وتؤرِّقُ ليلَ الجبابرةِ المتكبِّرين ، وزيادةً على ذلكِ أمرَ القبطيَّ قائلاً ” أَجِلْ سوطَكَ على صلعةِ أبيهِ ) ليشعرَهُ أنَّ العدلَ يقتضي أن يحترمَ شريفُ النسبِ من يظنُّ أنهم دونَهُ نسبًا وشرفًا .. والفاروقُ هو القائلُ :” لو كانَ سالمُ مولى أبي حذيفةَ حيًّا لولَّيتُهُ ” ..
ويحضرُني هنا قولٌ جميلٌ للراحلِ الكبيرِ نزار قبَّاني عن رئيسِ جامعَةِ الديمقراطيَّة الأولى ( الفاروق عمر بن الخطَّاب ) ، قال :” لو أني أعرفُ المدرسةَ التي تعلَّم فيها عمرُ بن الخطَّاب لأرسلت إليها الحكَّامَ والرُّؤساءَ العربَ ليأخذوا دروسًا في الديمقراطيَّة ..” وقد كانَ صُهيبٌ الروميُّ رضي الله عنهُ يردِّدُ هذا البيتَ لعيسى بن فاتكٍ: أ
َأبي الإِسلامُ لا أَبَ لي سِواهُ *** إِذا فَخَرُوا بِبَكرٍ أَو تَميمِ
نعم لقد أدركَ أنَّ الفطرةَ السليمةَ ، والإسلامَ الحقَّ لا يدعوانِ للفخرِ بالقبليَّةِ النتنةِ ، وإنما بأنَ ينتسبَ المرءُ للإسلامِ بأخلاقِهِ السَّمحةِ ، وفضائلِهِ التي لا تعدُّ .. فيدخلُ المرءُ في رضا اللِه ، وينالُ خيري الدنيا والآخرة ..
وأرى أن البيتينِ بعد البيتِ السَّابقِ أيضًا فيهما الكثيرُ منَ الحكمةِ والموعظَةِ الحسنةِ:
كِلا الحَيَّينِ يَنصُرُ مُدَّعيهِ لِيَلحَقَهُ بِذي الحَسَبِ الصَّميمِ
وَما حَسَبٌ وَلَو كَرُمَتْ عُروقٌ وَلكِنَّ التَقِيَّ هُوَ الكَريمُ
ففيهما استلهامٌ ذكيٌّ لمعنى الآيةِ :”إنَّ أكرمَكم عندَ اللهِ أتقاكم ” فالقبيلةُ اليومَ في أغلبِ المجتمعاتِ الشَّرقيَّةِ المتنابزةِ بتفاخرٍ أجوفَ .. والمتشامخةِ بأمجادٍ هشَّةٍ ، والمتطاولةِ على كلِّ القيمِ ، فقد انسلخت من جلدِها الاجتماعيِّ الفطريِّ الجميلِ .. وارتدَت جلدًا مصطنعًا قبيحًا ، يروقُ لمشيئةِ بعضِ مرضى النفوسِ .. لتعيدَ إلى الأذهانِ ما كانَ في الجاهليَّةِ من تفاخرٍ زائفٍ بالقبيلةِ ، المصدرِ الأوَّلِ للعصبيَّةِ المقيتةِ ، والمثيرِ للفتنِ والحروبِ والنَّعَراتِ الجهويَّةِ الخاسرَةِ .. حتى والعالمُ اليومَ يتسلَّقُ سني القرنِ الواحدِ والعشرينَ صُعودًا ؛ لا تزالُ ثمَّةَ حروبٌ شعواءُ خاسرةٌ تُشَنُّ باسمِ القبيلةِ .. والقبيلةُ ـ بشكلِها المعاصرِ المشينِ ـ قد صارت مُرَادفًا للتعصِّبِ الأعمى ، والردِّةِ الحضاريَّةِ ، والتخلُّف العمديِّ ، والرجعيَّةِ الاجتماعيَّةِ في أسوأِ مستوياتِها ، وغيرِها منَ المعاني المنحطَّةِ .. ذلك لأنَّ القبيلةَ أضحَت تمارسُ سياسةَ إقصاءِ الآخرِ مهما كانت سلوكيَّاتُهُ وأخلاقُهُ .. باسمِ أفرادٍ ينوبونَ عنِ الكثرةِ الكاثرةِ .. ويمارسونَ شنائعَ ينسبونَها للقبيلةِ ، ويبرِّرونَ سلوكيِّاتِهِم المعوَّجةِ بحجَّةِ خدمةِ القبيلَةِ ..
وللقبيلةِ سلبيَّاتٌ لا تعدُّ ولا تحصى ، لعلَّ أوَّلها أنَّ كلَّ الذين يثيرونَ النعراتِ القبليةِ هم المستفيدونَ وحدَهم من فتنِهم ، يحقِّقونَ بها مصالحَهم الخاصَّةَ ، ويقصونَ خصومَهم الحقيقيينَ والوهميِّينَ الذينَ تصوِّرُهم لهم ـ في الغالبِ ـ نفوسُهُمُ المريضةُ المسكونةُ بالعتمةُ ، المجبولةُ على العداءِ والتحسُّسِ من كلِّ شيءٍ .. المكتظةِ بأنانيِّةٍ سافرةٍ ، وغيرِ اعتياديةٍ ..
وباسمِ القبيلةِ وصلَ كثيرٌ منَ المفسدينِ إلى مناصبِ ما كانوا ليحلموا بها .. لولا غناؤُهُمُ الفجُّ بالقبيلةِ ، وتعصُّبُهُم لها تعصبًّا أعمى .. أصمَّ .. كسيحًا .. ولبسُ عباءَتها الممزَّقةِ بفعلِ الشدِّ المتكرِّرِ لأطرافِها بأيادي خشنةٍ لوراءِ الوراءِ ، أولئك الانتهازيُّون الذين سُرعانَ ما يخلعونَها عندَ تحقيقِ مآرِبِهم ، والوصولِ إلى غاياتِهم .. وبهذا فقد طغى صَوتُهَا على صَوتِ الدولةِ ، بل وطغت سطوتها وسلطتها عليها ككيانٍ .. فأيِّ مجالٍ لم تدخلْهُ القبيلَةُ ، بَدْءًا منَ الوظائفِ العامَّةِ ، والمناصبِ الإداريَّةِ ، والتعييناتِ التي تُقَسَّم إلى حصصٍ يُراعى فيها نصيبُ كلِّ قبيلةٍ على حِدَه .. فالقبيلةُ ترتعُ بوحشيِّتِها وعنجهيَّتِها في المدارسِ والجامعاتِ والمعاهدِ ، وفي أطرِ المعرفةِ ، ومنابرِ الثقافةِ ، بل حتى في دورِ العبادةِ المقدَّسَةِ ..!?
وفي هذا الخضمِّ تضيعُ كلُّ قبيلةٍ صغيرةٍ ، أو من هو بلا قبيلةٍ فاعلةٍ في محيطِ سكناهُ على مرأى عيني الدولةِ المغمضتينِ بحياءٍ ..!! وبهذا غدَتِ القبيلةُ المتضخَّمَةُ ، المتوحِّشةُ التوجَّهاتِ والمطامحِ مشروعًا غيرَ معلنٍ لاغتيالِ الدولةِِ ، وقنبلةً موقوتةً لتدميرِ كيانِها ؛ إذ أنَّ القبيلةَ كمفهومِ اجتماعيٍّ قد ترهَّلَ كثيرًا بسببِ تحميلِهِ ما لا يحتملُ من معانٍ خلقةٍ بائدةٍ ، فقد صارَ من معانيها المستجدَّةِ المغلوطَةَ : السعيُ بكل السبلِ لطمسِ أيِّ تاريخٍ غيرِ تاريخها .. والتفرُّدُ بقمِّةٍ مزيَّفةٍ مصنوعةٍ من وهمٍ وخداعٍ عملت فيه النفسُ الأمَّارة دورًا كبيرًا ، بدءًا بقتلِ النفسِ الراضيةِ والمطمئنَّة أوَّلاً .. واستفردَت الأمَّارةُ وحدها بفرض وسوساتِها الشيطانيَّةَ .. وتوجيهِ سلوكِ أصحابِها جنوحًا إلى غيرِ دروبِ الرشدِ والصلاحِ .. وما نراهُ في دولِ العالمِ الثالثِ من تناحرٍ سببَهَ القبليَّةُ والعصبيَّةُ ..
ففي ظلِّ راهنٍ ما يتحوَّلُ شيخُ القبيلةِ إلى رئيسِ عصابةٍ مسلَّحةٍ تمارسُ الخطفَ والقتلَ والسَّلبَ والترويعَ ، أو زعيمِ مليشيةٍ تمتهنُ الاعتداءَ على الآخرِ دونَ اعتبارٍ لأيِّ قيمةٍ من قيمِ الحياةِ. فيزجُّ بقبيلتِهِ ، بأفرادِها الأبرياءِ في طاحونةِ حروبٍ لا ناقةَ لهم فيها ولا جملَ .. والواقعُ لا يحتاجُ لأمثلةٍ تدعمُهُ إذا كانت الصِّراعاتُ المسلَّحةُ في العراقِ والصومالِ وموريتانيا واليمنُ أدلَّةً وَشَوَاهِدَ ، وما يجري في دارفور من مذابحَ وجرائمَ قتلٍ وتهجيرٍ واغتصابٍ ، والاحترابُ الطويلُ والمستمرُّ بين قبائل التوتسي والهوتو في رواندا والكونغو ، هذه الصراعاتُ الدمويَّةُ التي تغذِّيها أطرافٌ خارجيَّةٌ صاحبةُ مصلحةٍ في هذه الحروبِ ، مستغلَّة شيوخَ القبائلِ وأعيانَ العشائرِ وبعضَ النفعيِّينَ من أبناءِ القبائلِ لبذرِ بذور الفتنةِ ، وزرعِ الكريهَةِ والقتالِ بينَ أبناءِ المجتمعِ الواحدِ .. والصِّرَاعاتُ المسلَّحةُ في مناطقَ متوتِّرةٍ كثيرةٍ منَ العالمِ الثالثِ تدعمُ كلُّها ما أريدُ قولَهُ.
وكلُّ الذينَ يحرِّكونَ النَّعراتِ الطائفيَّةِ ، ويدعونَ إلى سيادةِ منطقِ القبيلةِ بمفهومِهِ الوثنيِّ الموروثِ على حسابِ منطقِ الأخلاقِ والقيمِ والقوانينِ ، هم ليسوا من أبنائِها في الأصلِ.. فهم أمَّا دخلاءُ أو لقطاءُ أو إنكشارييِن ، يشكُّونَ في النظرَةِ والابتسامةِ ، وحتى في اليدِ المرتفعةِ لهم بالتحيَّةِ .. فلربما تتحوَّلُ الأصابعُ إلى أصابعِ اتِّهامٍ .. هم دخلاءُ يحسبونَ كلَّ صيحةٍ عليهم ، وتلكَ الاقترافاتُ الذميمةُ هي لذرِّ الرَّمادِ في العيونِ ، محاولةً لإثباتِ ولاءٍ مغشوشٍ مكذوبٍ للقبيلةِ ، أكثرَ من أبنائِها الأصلاءِ ، ما يذكِّرُني ببيتِ ابن سهلٍ الأندلسيِّ:
هَيهاتَ لا تَخفى عَلاماتُ الهَوى *** كَادَ المُريبُ بِأَن يَقولَ خُذوني
فهم من يزرعونَ الفتنَ في قلبِها ، ويلوِّثونَ سمعتَهَا ، ويعبثونَ بتماسِكِها .. فهاتوا لي قبيلةً أو حتى عائلةً صغيرةً متجمَّعةً على الخيرِ والصَّلاحِ ، فكلُّ قبائلِنَا عصَفَتْ بها عواصفُ الفتنةِ ، ونخرَهَا سوسُ التفرقَةِ والقزميَّةِ تبعًا لمشيئةِ أفرادٍ اعتادوا أن يغلِّبُوا مصالِحَهم على مصالحِ الجمَاعةِ ، وأن يفتنوا النَّاسَ ، ويوغروا قلوبَهَم على بعضِهما بعضًا ، فبسببِ أمراضِ نفوسِهم المزمنةِ المستعصيةِ يسؤوهم أن تتآلفَ النفوسُ وتتآخى .. وأن تتصافحَ القلوبُ وتتواشجَ وتتلاقى على الخيرِ والحبِّ والوئامِ .. واللهِ لو أنَّ هذا الولاءَ الزائفَ المصطنعَ للقبيلةِ كانَ لوجهِ اللهِ ، محبَّةً في دينِهِ وشريعتِهِ لاجتاحَ دينُنَا بتعاليمِهِ العظيمَةِ كلَّ الدنيا في زمنٍ وجيزٍ .. ولدخلَ النَّاسُ في دينِ اللهِ أفواجًا .. ولو أنَّ هذهِ العصبيَّةَ المجلجلةَ الملتهبةَ كانت لوجهِ الوطنِ لغدَت بلادُنا الأعظمَ في كلِّ شيءٍ .. ولانتفتِ العصبيَّاتُ الذميمةُ .. ولماتتِ الشُّلليَّاتُ المفسدةُ ، وعادَ للقيمِ السمحةِ وجهُهَا وَوَهْجُهَا ، ولصرعَ الحقُّ المبينُ الباطلَ المهزوزَ وأزهقَهَ ؛ إنَّ الباطلَ كانَ زهوقًا .. فالقبيلةُ بمفهومِها المتخلِّفِ ، وتصرُّفاتِ المتحكِّمين فيها باسمِها .. صارت مشروعًا لاغتيالِ الدولةِ .. بالقفزِ على قوانينِها ، وسلبِ ثرواتِها ، واستنزافِ مقدَّراتِها ، وإضعافِ كيانِها ، مشروعٌ حقيقيٌّ للاغتيالِ .. وإن لم يُعلنْ عنهُ .. لكنَّها تنخرُ في أساساتِ الدولةِ بغيَةَ إسقاطِها كما أسقطت نفسَها بنفسِها .. بنفسِ أدواتِها ، وبنفس الطريقةِ ، وبنفسِ الفاعلينِ.. فمتى تنتبهُ الدولةُ لمؤامرَةِ القبيلةِ الخطرةِ ..!?
__________
المصدر: قورينا