بقلم: فتحي الفيتوري

هناك ظاهرة محيرة وأعتقد أنه قد آن الأوان لإلقاء الضوء عليه وتحليلها وتطوير الأفكار حولها بكل صدق وجرأة وبدون أي مجاملة أو تحيز لأي طرف، ولتكن مصلحة الوطن هي الاعتبار التي نقيس به مدي صلاحية تلك الأفكار وأهميتها، وليكن الهدف من طرحها هو أخذ العبر والدروس للمساهمة في أيجاد الحلول الناجعة لمشاكلنا المستعصية.

هذه الظاهرة كشفت لنا مثالب ما كنا نعتقد أنه فخر وعزة لنا وللوطن ولهذه الأمة. هذه الظاهرة تتعلق بالجيوش العربية، وبالذات الجيش الليبي الذي كان قائده الأعلى الدكتاتور.

فعندما نقارن جيوشنا العربية بالمجموعات المسلحة التي تكونت أثناء ثورات الربيع العربي وتحديدا في الدول التي خاضت شعوبها نزاعا مسلحا وحربا ضروسا أطاحت بالطغاة وبأنظمتهم السياسية وفي بضع الحالات علّمت قواتهم المسلحة دروسا رائعة في الفداء والتضحية.

هذا المقال يقدم تفتيحا للموضوع بحيث نقوم بالقاء نظرة متجردة للواقع الليبي بحيث نتمكن من طرح الموضوع للمزيد من الدراسة بشكل أشمل وأوسع، المهم هو أن يكون الهدف استخراج الدروس التي قد تدلنا على الطريق الذي ينبغي اتباعه في حلحلة مسألة العلاقة بين الجيش التقليدي الرسمي وبين كتائب المقاتلين من الثوار الحقيقين لثورة فبراير.

فهل من مصلحة شعبنا الإبقاء على هذا الجيش أو استبداله أو الإستغناء عنه بالكامل؟

الجيوش العربية (وجيش القذافي وكتائبه الأمنية خاصة) كانوا عبءً على الشعوب ولم توجد تلك الجيوش إلا لخدمة الطغاة وأنظمتهم وأحزابهم الحاكمة التى مارست أسوأ أنواع القمع على شعوبها.

فمنذ أن تأسست الجيوش العربية كانت ولا زالت نقمة على الشعوب العربية. فبدلا من أن تكون مهمتها حماية الأرض والتصدي لأعداء الوطن لم نر منها إلا المزيد من ضياع الأرض.

وبرغم كل ما حدث و يحدث للمسلمين حول العالم من مآس وتنكيل وتشريد وتجويع نجد في المقابل وقوف الجيوش العربية متفرجة على كل ذلك ولا حياة لمن تنادي.

إن الجبين ليندى عند التفكير في مواقف تلك الجيوش التي صُرف عليها المليارات من الدولارات، فجنرالات وضباط وضباط صف القوات المسلحة العربيةبكل فروعها ظلوا لعقود من الزمن يأكلون ويشربون ويتمخطرون بأزيائهم كعرائس الزينة، وهم طاقة معطلة بل هم عبء ثقيل على الشعوب العربية.

وعند إمعان النظر في بنود الميزانيات الخاصة بالجيوش العربية وما يُصرف من الميزانية العامة حول التسليح والتدريب والإعاشة والبنى التحتية من معسكرات وآليات ومعدات ونواد، ودُشم لتخزين الأسلحة والذخيرة التي يأكلها الصدأ، وكل ذلك سُوِّق على أن الضرورة تقتضي أن تكون جيوشنا أكثر تطورا وأنها ينبغي أن تكون في مستوى الجيوش المتقدمة، وأن العدو متربص بنا وأنها هي القوة الوحيدة القادرة على حماية الوطن والإنسان.

وهكذا برروا مهازل صرف المليارات من الدولارات لاستيراد كل ما لذ وطاب من المأكل والملبس والمركوب تحت بند تسليح جنودهم وقواتهم بأحدث الأسلحة والعتاد المتطور ولكن الحقيقة أن ذلك هو ما هو مسموح ببيعه لهم من سلاح ومعدات وذخيرة، تكون غالبا قد خرجت من الخدمة في الدول التي تبيع لهم السلاح.

وعندما جاءت اللحظة التاريخية، وبدأ الربيع يطل بزهوره وعبيره رفعت شعوبهم بعض المطالب المشروعة وقَيّض الله شباب مدنيين عُزّل من الطلبة وصغار الموظفين والعمال والعاطلين عن العمل وانتفضوا معا ورفعوا شعارات الحرية والعدالة والمساواة.

بدأت الانتفاضة سلمية في مختلف المناطق، فوجد شباب الثورة العُزّل أنفسهم وجها لوجه أما ألاجهزة القمعية للنظام تتصدى بالرصاص والقواذف والراجمات، فحاولوا استمالة قواتهم المسلحة في صفهم للتخلص من الظلم والقهر والاستبداد، ولكن قادة وضباط الجيش في ليبيا فعلوا العكس تماما فزحفوا على المدن والقرى للقضاء على الثورة في مهدها، وأصروا على معاقبة الشباب الثائر بشكل غير مسبوق وسقط المئات من الشهداء والجرحى في الأسابيع الأولى وعرف الشارع الليبي مصطلح المبتورين لأول مرة.

ان لزاما على بعض الوطنيين الأحرار والقلة من أبناء الجيش أن ينحازوا إلى أهلهم وانتظموا يُدَرّبون ويُسلّحون ويُسيّرون الكتائب، فكان تدريبهم بسيط وأحيانا بدونه، وكانت معداتهم بدائية بموازين الجيوش المتقدمة، وتحركوا معا للتصدي لمهمة القضاء على الدكتاتور وإسقاط نظامه وتحرير البلاد والعباد من طغيانه، فماذا فعل الغالبية من الألوية والجنرالات والعمداء والعقداء في جيش القذافي وكتائبه الأمنية، وفي المقابل ماذا فعلت كتائب الثوار بأعوانه وجنرالاته؟

هذا ما قصدناه بالظاهرة التي تبعث على الحيرة والاستغراب، ولعل المثال الحي الذي نلمسه ونعرفه جيدا هو ما حدث في مدينة سرت وضواحيها. فالمشهد كشف لنا بأن الشباب الذين تصدّوا لقوات داعش وانتصروا عليها في أكثر من معركة هم شباب تدربوا تدريبا محدودا وكانوا أيام الثورة محل استغراب من المراقبين الدوليين، وكان عتادهم بسيط في نظر الألوية والجنرالات والأركان، وكان لباسهم عادي وبسيط بل محل تندّر بـ (شباشب الصبع)، وكانت معلوماتهم التكتيكية واللوجستية عن أرض المعركة معدومة.

ولعل ما حدث في بنغازي ودرنة وسرت وإخيرا في جنوب طرابلس والذي شوهد حيا عبر الهواتف الذكية جعلنا قادرين على عقد المقارنة بين ما فعله الجيش وما فعله ثورا 17 فبراير.

المسألة المطروحة للنقاش تتعلق بالجدوى في ليبيا الجديدة من وجود جيش تقليدي نظامي كالذي كان القذافي يقوده وقد ورطه في حروب خاسرة كثيرة وهو نفس الجيش الذي قصف وقتل ودمر أحياء مدينة بنغازي ودرنة وجنوب طرابلس.

ما نسعى إليه في هذا المقال هو تفتيح الموضوع، خاصة في وضع ليبيا المترامية الأطراف التي تحتاج إلى حماية كبيرة لحدودها وشواطئها، وبالتالي هناك حاجة ماسة إلى قوه عسكرية تحمي حدود البلاد وتمنع عصابات التهريب والهجرة غير الشرعية وتحافظ على المصادر الحيوية والثروات الطبيعية، وهذه القوة ينبغي أن تكون صغيرة ولكنها مجهزة بأحدث أنواع التقنية المستعملة في هذا المجال.

أما ما تبقى من الحرس القديم الذين عاصروا المرحلة الأولى من تأسيس الجيش الليبي، الذين لا يرون أي جديد في الطريقة التي ينبغي أن يتم بها إعادة تأسيس الجيش، فهؤلاء لا يعرفون إلا الطرق التي تدربوا عليها في معسكرات الجيش الليبي التقليدي، أما الجيل الجديد من العسكريين فينبغي أن يكونوا على قدر من المعرفة التكنولوجية وأن يفكروا بطرق أكثر انفتاحا على ما يحمله المستقبل من تقدم في مجالات الإدارة والمناورة والإتصال والتدريب.

إن الوضع المزري التي تمر به بلادنا يحتم علينا أن نفكر بطريقة أوسع وأشمل فالأسلوب التقليدي لإعادة بناء الجيش سيكون صعبا جدا وقد يكون مستحيلا، ناهيك عن أنه لن يخدم بلادنا في المستقبل.

الدولة على حافة الهاوية والوطن في حالة انقسام غير مسبوقة، والكتائب العاملة حاليا لن تتبخر بين يوم وليلة، وستكون موجودة كما حدث في كل الثورات المسلحة، فلابد من وضع الخطط والتصورات التي تمكن الدولة من استيعاب هذه الطاقة البشرية الفاعلة.

فليبيا ـ حسب ما أرى ـ لا تحتاج إلى جيش تقليدي كبير العدد، ولكنها تحتاج إلى قوات فاعلة وعالية الإستعداد التقني وأيضا تحتاج إلى حرس وطني فعال تكون مهمته حماية الحدود وتأمين المنشآت الحيوية وحراسة الشواطيء والحدود البحرية. ونترك مسألة تحديد العدد الكلي للجيش بقدر الحاجة، وبالتالي فالتسليح والتجهيز والتدريب ينبغي أن يكون على مستوى عالى من المعرفة والكفاءة والتقنية الحديثة.

هذا الأمر لن يتم بين ليلة وضحاها، والموضوع يحتاج إلى المزيد من الدراسة والخطط المرحلية والمستقبلية التي يمكن أن توصلنا إلى أهدافنا الاستراتيجية.

من جهة أخرى، فإن ليبيا تحتاج إلى إقحام شبابها في برامج حقيقية للخدمة الوطنية التي لا تزيد عن ستة أشهر بحيث ينخرط بعدها الشباب في برامج تدريبية مكثفة لعدة أسابيع سنويا، وبطريقة مدروسة ولا يكون فيها أي من سلوكيات التدريبات العسكرية التي عرفناه في جيش القذافي والتي كانت تهدف إلى إذلال المواطن المدني، بل ينبغي أن يصبح الالتحاق بهذا البرنامج مصدر افتخار للشباب بأنه أعطى لبلاده الوقت والجهد والعرق خدمة للوطن وللمصلحة العامة.

سيكون هذا الجهد والوقت فرصة حقيقية لتطوير مهارات الشباب وتكوين شخصيتهم الواثقة والقوية نفسيا وبدنيا وفكريا وعمليا، وتكون المحصلة الحقيقية لبرامج الخدمة الوطنية تراكم خبرة عملية مفيدة للشباب وهم في طريقهم إلى مسرح الحياة بما فيها من تحديات يتعاملون معها بكل اقتدار ويتحول الشباب إلى مخزون من الإحتياطي الاستراتيجي التي تعده البلاد للأوضاع الطارئة التي تحتاج فيها البلاد لمن يدافع عنها ويحميها.

هذا تفتيح للموضوع

والله من وراء القصد

___________

مقالات مشابهة

1 CommentLeave a comment

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *